إكزوبري "أمير صغير" تحتفل به فرنسا والعالم في عيده السبعين

الأحد 2015/12/06
إكزوبري وطفله الفضائي وحكايته السحرية كما في الأدب

إسطنبول - يحتفل الفرنسيون هذه الأيام ومن خلال معرض في فرساي-باريس بالذكرى 70 لولادة شخصية طافت شهرتها الآفاق مع صدور الطبعة الفرنسية الأولى من رواية “الأمير الصغير” للأديب الفرنسي المغامر أنطوان دو سان إكزوبري.

المعرض، الذي يضم صوراً وأغراضا كثيرة تتصل بالرواية ومؤلفها، يقدم حصيلة سبعة عقود من الاحتفاء العالمي بالرواية الأكثر شهرة وربما الأهم في عالم الأدب الموجه للأطفال.

وبالرغم من أن الكثير من النقاد وكذلك القراء على حد سواء، لم يعتبروا بأن هذه الرواية هي رواية “طفلية” بل رأوا فيها رواية موجهة للكبار قبل الصغار، إلا أن شخصيتها الرئيسة، وكذلك رسوم المؤلف التعبيرية التي زينت صفحاتها، وكذلك تحويلها إلى أفلام سينمائية أو تلفزيونية أو رسوم متحركة، كل ذلك حافظ على صبغتها الأصلية، واضعاً إياها في دائرة الأعمال ذات الخصوصية في التأثير، فالإدهاش والخروج عن المعتاد هو عالم الأمير الصغير، وهو عالم مؤلفها الذي قتل في حادثة سقوط طائرته الحربية قبالة الشواطئ الفرنسية عام 1944.

قادم من كوكب بعيد

“الأمير الصغير” قدم إلى كوكب الأرض من كوكب آخر صغير الحجم يحمل اسم بي 612، واضطر إلى زيارة الأرض بعد أن تعطلت طائرته، ليلتقي بالراوي/المؤلف. لتدور بينهما أحاديث غريبة عن كل ما يشاهده الفتى الزائر. ومن خلال هذه الحواريات وكذلك الأحداث الصغيرة التي تمر فيها، تفسح الآفاق لدى القارئ عن عالمين يتعارضان دون صراع، عالم البراءة وعالم الكبار الذين قولبتهم الحياة بتفاصيلها، ودون أيّ عناء أو مقاومة يجد القارئ نفسه في حالة غريبة من الدهشة قوامها الاصطدام بالعوالم التي لم تنجح الحياة الرتيبة في تخريبها.

القصة تبدأ بحكاية مفعمة بالسخرية من عالم الكبار يحكيها المؤلف عن نفسه فيقول “رأيت وأنا في السادسة من عمري، صورة رائعة في كتاب عن ‘الغابة العذراء’ يدعى ‘قصص حقيقية’ وكانت الصورة تمثل ثعبان بوا يبتلع وحشاً. وقرأت في الكتاب: أن الثعابين تبتلع فريستها بكاملها، من دون أن تمضغها، فإذا ابتلعتها عجزت عن كل حركة، ونامت مدة ستة أشهر حتى تنتهي من هضمها. وبعدها، فكرت ملياً في ما يقع في الغابات من الحوادث. أخذت قلماً فيه رصاصة ملونة وخططت أول رسم رسمته. ثم أريت باكورة فني الكبار من الناس، أعني الكبار في السن، وسألتهم قائلاً: أما يخيفكم هذا الرسم؟”.

ألمانيا بكل جبروت آلتها العسكرية لم تستطع أن تنل من روايات إكزوبري سوى عبر حذف عبارة "هتلر أحمق" من روايته "الطيران إلى آراراس"، بعدها رحل إكزوبري صيف العالم 1944 في نهاية الحرب حينما اختفت طائرته فوق البحر المتوسط قبالة خليج آنج ولم يبق من هذا الروائي/الطيار إجرائياً سوى عبارة "لم يعد"

ويتابع إكزوبري “فأجابوا: متى كانت القبعة تخيف الناس؟ ما كان رسمي يمثل قبعة بل ثعباناً يهضم فيلاً. ثم رسمت باطن الثعبان عسى أن يفهم الكبار فإنهم في حاجة دائمة إلى الإيضاح. وكان رسمي الثاني كما ترى”.

ونبقى مع إكزوبري الذي يقول “فلما أبرزته لكبار الناس، نصحوني بأن أدع جانباً رسم الثعابين من الخارج والباطن وقالوا: الأفضل لك أن تعني بدرس الجغرافيا والتاريخ والحساب وقواعد اللغة. فأهملت، وأنا في السادسة من عمري، مستقبلاً باهراً في فن التصوير لأن رسمي الأول والثاني لم يروقا كبار الناس. إن هؤلاء الكبار لا يدركون شيئاً من تلقاء نفوسهم فلا بد للصغار من أن يشرحوا لهم ويطيلوا الشرح ويكرروا. ولا يخفى ما في هذا من التعب والعناء”.

هذه الحكاية الافتتاحية، وكذلك التفاصيل الأخرى تفسر لنا السر في الإهداء الذي قدم به إكزوبري روايته، حيث كتب اعتذاراً للأطفال لأنه يهدي كتابه لشخص كبير، عدد فيه الأسباب وختمه بالقول “إني أرغب تقديم هذا الكتاب لهذا الطفل الذي كانه ذاك الإنسان الكبير. لأن كل الكبار كانوا ذات يوم أطفالاً (وإن كان القلائل منهم يتذكر هذا) لذلك أصحح إهدائي الذي أقدمه: إلى ليون فيرث حين كان طفلاً صغيراً”.

غرابة القصة وغرابة مصير

لا تضيف النهاية الغريبة لحياة أنطوان دو سانت إكزوبري شيئاً على رؤيتنا “المشتهاة” لمصير أميره الصغير، فكلّ منّا يتماهى مع هذه الشخصية الروائية الفطرية، في المواجهة الدائمة مع كل التفاصيل الاستهلاكية التي غمرتنا بها الأزمنة الحديثة.

ولد هذا الكاتب في العام 1900 ابناً لعائلة أرستقراطية من ليون، وقد تعلق الطفل بأمه لا سيما بعد رحيل مبكر لوالده، وقد درس إكزوبري في مدرسة الآباء اليسوعيين. وبعد تخرجه أدّى خدمته العسكرية في صفوف القوات الجوية، ولكنه سرعان ما ترك الطيران بسبب اشتراط عائلة الفتاة التي أحبها تركه للطيران من أجل الموافقة على زواجه منها، غير أن إكزوبري عاد فجأة إلى هوايته بعد أن مارس العمل التجاري وملَّ منه مما أدى لفقدانه زوجته.

منذ العام 1926 بات إكزوبري طياراً محترفاً، وقد عمل في مؤسسة لتوزيع البريد إلى كافة أنحاء العالم عبر النقل الجوي، وهكذا سيتعرض الكاتب إلى حادثتين سترسمان مستقبله هما: نجاته من الموت إثر سقوط طائرة عام 1935 في الصحراء المصرية، وكذلك سقوط طائرته عام 1938 في غواتيمالا، هاتان الحادثتان لم تؤثرا على رغبة إكزوبري في ارتياد آفاق السماء، فالطيران بالنسبة إليه هو الحياة “حياتي دون طيران ليست ذات معنى”.

سقوطالطائرةليس مجرد موت يندم عليه المرء أو يخاف منه “لو سقطت طائرتي فلن أشعر بأيّ حزن فأنا متشائم من فوضى المستقبل” و”الحياة تعني أن تثبت قدرتك على تحدي الموت”، فالطيران كما ينقل عنه أحدهم هو “وسيلة المعرفة، ومعرفة النفس تحديداً”.
ولعل النهاية التي نعرفها لحياة إكزوبري تفقد زخمها ههنا ونحن نعرف استعداده لها كاحتمال، لا سيما وأنه اشترك في الحرب العالمية الثانية لا عبر قتاله في سلاح الطيران بل عبر رواياته التي كانت في مواجهة هتلر الذي اجتاحت قواته فرنسا وأجبرت الكاتب على العيش في أميركا كمنفيّ.

فألمانيا وبكل جبروت آلتها العسكرية لم تستطع أن تنل من روايات إكزوبري سوى عبر حذف عبارة “هتلر أحمق” من روايته “الطيران إلى آراراس”، وهكذا رحل إكزوبري يوم الـ31 من يوليو عام 1944 في نهاية الحرب حينما اختفت طائرته فوق البحر المتوسط قبالة خليج آنج ولم يبق من هذا الروائي/الطيار إجرائياً سوى عبارة “لم يعد”.

عودته بعد عشرات السنين

لكن إكزوبري عاد فجأة في العقد الأخير من القرن العشرين. بذات المنحى الغرائبي والملتبس لتفاصيل حياته الشخصية، وهو صاحب روايات “طيران الليل”، “أرض للرجال” و”رسائل الشباب” و”طيار حربي” و”بريد الجنوب”. ففي بداية عقد التسعينات قرر الفرنسيون -جرياً على عاداتهم في تكريم أدبائهم- الاحتفال بإكزوبري عبر وضع صورته ورسمه لأميره الصغير على ورقة نقدية من فئة الخمسين فرنكاً، وقد جرى ذلك فعلاً غير أن هذه الورقة النقدية سرعان ما سحبت من الأسواق، واستبدلت بأخرى مماثلة إثر اكتشاف خطأ غير ملحوظ، وغير متوقّع بالأحرى في طريقة كتابة اسم الكاتب “القديس إكزوبري”.

غير أن العودة الثانية تضعنا مباشرة أمام بوابة سحرية، إذ أنه وللمرة الثانية يأتي ليختم القرن على طريقته التي تظهر ملامحها في “الأمير الصغير” فقد أوردت وكالات الأنباء في نهاية العام 1998 خبراً غريباً هو عثور صياد مغربي على سوار خاص به في بطن سمكة اصطادها على الشواطئ الجنوبية لفرنسا.

بعض من قرأوا الخبر حاولوا أن يخففوا من تفاصيله بالقول: إن السوار كان عالقاً بشبكة الصياد، وقال البعض إن هذا الخبر قد يكون في تفاصيله مختلقاً من قبل الشركة التي أعلنته لتفتتح حملةً للبحث عن طائرة الكاتب، ولكن هذه السمكة الراقدة في الخبر حقاً هي سمكة سحرية، وصيادها واحدٌ من رجال الحكايات الخرافية.

وهذه الحادثة تذكر بإحدى المسرحيات الهندية التقليدية “شاكونتلا” لمؤلفها الملك كاليداسا، وفيها تلعب السمكة دوراً بطولياً مشابهاً حينما تبتلع خاتم الملك، الذي يقوده للتعرف على زوجته/حبيبته، وذلك في مناخ أسطوري يشبه عوالم ألف ليلة وليلة.

النهاية التي نعرفها لحياة إكزوبري تفقد زخمها ههنا ونحن نعرف استعداده لها كاحتمال، لا سيما وأنه اشترك في الحرب العالمية الثانية لا عبر قتاله في سلاح الطيران بل عبر رواياته التي كانت في مواجهة هتلر الذي اجتاحت قواته فرنسا وأجبرت الكاتب على العيش في أميركا كمنفي

اللحاق بالسمكة

المقاربة التي تتيحها “غرضية” السمكة ههنا، تدفع بإكزوبري وبنا نحو استناد أدبه في أغلب تفاصيله إلى عمله؛ حضور هذه العلاقة ما بين المصير غير المتوقع وبين الأدب، يوحد علاقة التواصل على شكل اشتهاء، فكما اعتمد “الأمير الصغير” على حوار مع المخلوقات ومن بينها الإنسان، تقام الآن علاقة الحوار/السرد الإخباري بين إكزوبري وبين السمكة، وليغدو الأمر وبغض النظر عن طرافته بؤرة “سردية” فيها شيء خارق وغير متوقع.

وإذا تم التفكير بالأمر من زاوية كونه مجرّد خبر صحفي تسوّقه شركة تبحث عن الربح، فإن اللوحة قد يتم تصنيعها حقاً من قبل طرفين هما: الحس التجاري والفضول أو الرغبة بالاكتشاف من جهة، والخيال الأدبي الإنساني وسردياته من جهة ثانية.

وفي المطالعة القصوى لثيمة السمكة والتي نعتبرها مجرد عتلة لمقاربة سحرية الحياة المؤدية إلى سحرية الأدب، نقول عن مصير إكزوبري إنه غرائبي: الوجود في قاع البحر في جوف سمكة (كما في حكاية النبي يونس الذي حفظه الحوت) مصير يفيد بخيال إنساني يمازج بين السحر وبين رغبة الخلود والتأبّد، وكذلك بسحرية واقعية ربما تكون قد أدت فعلاً وأثناء البحث عن حطام طائرة إكزوبري إلى العثور على حطام سبع سفن غارقة (لا علاقة للخبر بسحرية الرقم سبعة) وهذه السفن كانت مليئة بالجرار الفخارية وبالكنوز الغارقة قبالة السواحل الفرنسية.

فإذا ما اعتبرنا أن هذا الخبر الذي أوردته وكالات الأنباء في بداية هذا القرن، هو آخر الأخبار أو الظهورات السحرية لأنطوان دو سانت إكزوبري، فإننا حقاً لن نستغرب أبداً ما طالعتنا به عدة صحف فرنسية حينما اعتبرت -وبعيد عدة استبيانات للرأي في فرنسا والعالم- رواية “الأمير الصغير” رواية القرن العشرين، حيث يباع منها كل سنة أكثر من مليون نسخة، وقد ترجمت رسمياً إلى 250 لغة، دون احتساب الترجمات المتكررة ضمن اللغة الواحدة، من مثل وجود ثماني ترجمات باللغة العربية كمثال.

9