شهامة أبي دلامة
أبو دلامة، معروف بقول الشعر الساخر والنثر الساحر، مشهور بالدعابة التي تشفي النفوس من الكآبة، مشهود له بالفصاحة والبلاغة والنباهة، عاش في النصف الأول من القرن الهجري الأول، لكنه شخص مظلوم على وجه العموم، لأنه موصوف لدى العامة بفساد الدين، وموصوف لدى الخاصة بالجبن وانعدام المروءة، لا لسبب سوى لأنّه اعتاد على الهرب من القتال، وقد تخاذل في مبارزة أحد الفرسان في مشهد مشهور ضمن إحدى المعارك المذكورة في كتب التاريخ، علما بأنه لم يكن جنديا في الأصل والأساس ولا سوابق له في القتل والقتال والحرب والنزال. غير أن إعادة قراءة نفس المشهد المشهور قد تضعنا أمام صورة مختلفة.
تقول الحكاية: خرج والي البصرة في عهد الخليفة العباسي المهدي لأجل محاربة الخارجين عن طاعة السلطة العباسية من جنود خرسان، وأمر أبا دلامة بالخروج معه. وعندما التقى الجمعان في الميدان، انبرى أحد فرسان خرسان يطلب المبارزة، وكان يقتل كل من يخرج إليه.
فأمر والي البصرة أبا دلامة بالخروج لمقاتلته، فأمتنع، فألزمه فأستعفاه، فحلف والي البصرة: لتخرجن فتقتله، أو تقتل دون ذلك. فقال أبو دلامة: أيها الأمير إنك تعلم أن هذا أول يوم لي من أيام الآخرة، وأنا جائع ولا أريد أن ألقى الله جائعا، فأمر له برغيف مطوي على دجاجة ولحم وفاكهه. فأخذ الزاد بيده وحمل السيف باليد الأخرى، وخرج راكبا فرسه، يجول به بتمهل، والفارس الخرساني يلاحظ ويتحين.
وفجأة أرجع أبو دلامة السيف إلى غمده وقال للفارس: لا تعجل واسمع مني كلاما مهما. فدنا الفارس منه وقال ما المهم؟ قال أتعرفني؟ قال لا، قال أنا أبو دلامة قال: سمعت بك، فكيف برزت إليّ بعد أن رأيت من قتلتُ من أصحابك؟ قال أبو دلامة ما خرجتُ لأقاتلك ولكني رأيتُ شهامتك فاشتهيت أن تكون لي صديقا، وأني لأدلك على ما هو خير لك من القتال. قال الفارس: قل .
قال أني أراك قد تعبت، وأنت بغير شك جوعان، فقال نعم. قال: فما شأننا بجند العراق وخرسان؟ إن معي خبزاً ولحماً كما يتمنى المتمني، وغدير الماء قريب منا، نخرج إليه ونجلس بجواره نأكل ونشرب، وأترنم لك بشيء من شعري، فقال الفارس: هذا غاية أملي.
فانسحبا من حلقة القتال، ومضيا إلى الغدير، ثم أكلا وشربا واستمتعا بالحياة لبضع لحظات. وقد اختلف الرواة في مآل الأمور لدى سائر جنود المعسكرين.
والسؤال الآن، كيف جعل المسلمون من شخص توفق في وقف الفتنة بينهم، ولو لبعض الوقت أو لحين، إنساناً عديم المروءة وجبانا؟ وهل يمكن لشخص جبان أن يمتلك ما يكفي من رباطة الجأش وتمالك النفس وثبات القلب بحيث يقنع خصمه المتأهب لقتاله بترك مهمة القتال العبثي وتقاسم الخبز والماء والاستمتاع بالشعر والحياة ولو للحظة أو لبعض لحظات؟
والسؤال الآخر، في زماننا هذا الذي توشك فيه الفتنة أن تحرق كل شبر من أوطاننا، ألسنا نحتاج إلى أشخاص يملكون شهامة أبي دلامة، بحيث يتفرغون لإقناع أمراء الفتن ودعاة الجحيم بأن هناك ما هو أجل وأجمل من أن نقاتل من أجل أساطير الآخرين؟