مدينة الخليل: من هبة البراق إلى هبة الأقصى
تصدرت مدينة الخليل، وعدد سكانها حوالي 700 ألف نسمة، مشهد الهبة الشعبية الفلسطينية التي اندلعت منذ شهرين، واحتلت المكان الثاني بعد مدينة القدس، بين مجمل مناطق الضفة الغربية.
يمكن تفسير ذلك بثلاثة أسباب: أولها، وجود تجمع كبير للمستوطنين، داخل المدينة، وخارجها في مستوطنة “كريات أربع”، التي تأسست بعد الاحتلال مباشرة (عام 1967). والمشكلة أن المستوطنين في هذه المنطقة من النوع المتدين والمتطرف، فمنهم خرج باروخ غولدشتاين، مثلا. ولا شك أن وجود المستوطنين، مع قوات عسكرية لحمايتهم، يخلق حساسيات كثيرة، ويتيح مجالات كبيرة للاحتكاك بينهم وبين الفلسطينيين.
وثانيها، نابع من الصراع الديني على الحرم الإبراهيمي الشريف، حيث استطاعت إسرائيل أن تفرض، في بروتوكول الخليل (1997)، اتفاقات مجحفة ومهينة بحق الفلسطينيين، لصالح اليهود المتدينين، ضمنها سيطرتهم على حوالي 20 بالمئة من مساحة المدينة، والتقسيم الزماني والمكاني في الحرم الإبراهيمي.
وثالثها، نابع من أسباب تاريخية، فهذه المدينة التي تقع إلى الجنوب من القدس، كانت أحد أهم مراكز الصراع ضد الاستيطان الصهيوني في مطلع القرن الماضي، وكانت المواجهات إبان هبّة البراق (نسبة للحائط الغربي في القدس الذي يعتبره اليهود حائط المبكى)، التي جرت في القدس وامتدت إلى مدن فلسطين (1929)، أدت إلى طرد اليهود برمتهم من مدينة الخليل، بعد قتل العشرات منهم، الأمر الذي شكل عقدة ثأرية لدى الصهاينة المتدينين والمتطرفين.
هكذا كان احتلال الخليل (1967) بمثابة فرصة لهؤلاء المتطرفين للعودة إلى المدينة، والثأر من أهلها، الأمر الذي جعل من المدينة من أهم مواطن المقاومة ضد إسرائيل، ومن أهم المناطق التي تسعى إسرائيل إلى الاستيطان فيها، بعد منطقة القدس.
ففي العاشر من أبريل 1968، قام الحاخام المتطرف موشية ليفنغر على رأس مجموعة من ثمانين رجلا وامرأة بدخول مدينة الخليل، بحيث تمترسوا في أحد فنادقها، لكن الحكومة الإسرائيلية بدل أن تخليهم قامت بنقلهم إلى مقر الحاكم العسكري، ثم أقامت لهم تجمعات سكنية خاصة؛ بحجة إعادة بناء الحي اليهودي الذي كان يقطنه المستوطنون اليهود في العشرينات. وفي 31 أغسطس 1970 سمحت الحكومة الإسرائيلية للمستوطنين اليهود بإقامة مستعمرة “كريات أربع”، التي باتت معقلا لجماعة”غوش إيمونيم” المتطرفة، ورمزا للاستيطان الديني والأيديولوجي في الخليل، وفي عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة (1967). وفي 27 غسطس 1972 قام الحاخام مائير كاهانا، زعيم حركة “كاخ”، آنذاك، باقتحام الحرم الإبراهيمي، مع مئة من أتباعه، لإقامة شعائر الصلاة اليهودية فيه، وقد تجاوبت الحكومة الإسرائيلية حينها مع هذا التطور، بفرضها تقسيم الحرم بين اليهود والمسلمين، وإشرافها عليه. وبعد أربعة أعوام (2 أكتوبر 1976)، قام أربعة من المستوطنين بدخول الحرم وتمزيق المصاحف والدوس عليها، ما أدى إلى اشتباكات بين أهالي الخليل والمستوطنين. من أبرز المواجهات بين الأهالي والمستوطنين يمكن الإشارة أيضا إلى قيام مجموعة تضم 50 امرأة، تتزعمهن زوجة الحاخام ليفنغر، في نيسان 1979 باقتحام مبنى هداسا (مدرسة) في الخليل والاعتصام فيه، ثم انضمت إليهن فيما بعد غيئولا كوهين زعيمة حركة “هاتحيا”(مايو 1979)، ما أثار مشاعر أهالي الخليل وجدد الصدامات بينهم وبين المستوطنين؛ وكانت النتيجة إبعاد رئيسي بلديتي الخليل وحلحول فهد القواسمة ومحمد ملحم، وقاضي الخليل الشيخ رجب التميمي.
معلوم أن مستوطني الخليل الصهاينة تميزوا بالوحشية والعدوانية، إذ لم يتركوا أسلوبا إلا واستخدموه من الاعتداء الجسدي والقتل، إلى إحراق وتدمير المنازل والسيارات والمزروعات والمحال التجارية؛ وذلك تحت سمع وبصر وحماية قوات الاحتلال.
المعنى من كل ذلك أن عصابات المستوطنين المتطرفين، ممن يطلق عليهم في إسرائيل ذاتها، تسميات مثل “الأعشاب الضارة”، أو “زعران التلال”، وممن يسمون أنفسهم بجماعة “تدفيع الثمن”، هم استمرار للعصابات الصهيونية التي عرفها الفلسطينيون قبل إقامة إسرائيل، مثل “الهاجاناه” و”إرغون” و”شتيرن”، التي كانت على شكل ميليشيا، وارتكبت مجازر بحق الفلسطينيين، فضلا عن استهدافها الوجود البريطاني. كما أنها استمرار لعصابات المستوطنين المتعصبين والمتطرفين التي نشأت بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع (1967)، مثل: “غوش ايمونيم”، و”كاخ” و”كهانا حي” و”هاتحيا” و”أمناء جبل الهيكل”، مع حاخامات أو شخصيات متطرفة مثل مائير كاهانا، وغيئولا كوهين، وموشيه ليفنغر وغرشون سلمون.
طبعا، ثمة تساوق هنا بين سياسة حكومات إسرائيل والسياسة التي ينتهجها المستوطنون المتطرفون، لأن حكومات العمل وليكود وكاديما، دعمت الاستيطان وشرعنته، ومنحت المستوطنين الامتيازات، مع وجود نظامين قانونيين في الضفة، واحد للمستوطنين اليهود، وواحد للفلسطينيين، ينطوي على العنصرية وتشريع القمع والإزاحة ضدهم، ناهيك أن هذا القانون يمنح المستوطنين حق التسلح، وتشكيل ميليشيات بدعوى الحماية الذاتية، فضلا عن اطلاق أيديهم وحمايتهم، لدى اعتدائهم على الفلسطينيين وعلى ممتلكاتهم ومزروعاتهم.
كاتب سياسي فلسطيني