مدعو الحداثة سلفيو المواقف
تتعالى نبرة الغيبيات والتوجهات اللاعقلانية في المشهد الثقافي العربي فها هم بعض الكتاب ممّن كانوا يدّعون العلمانية أو يقاربون مقولات الحداثة والتنوير، يتخذون من ترويج الخرافة وممالأة تجار الدين والسياسة سبيلا لترسيخ سلطة الماضي ونفي العقل وتحريم السؤال، هم ليسوا بالمرجئة ولا بالمعتزلة ولا هم بالمتصوفة أو العرفانيين، بل هم من المتلجلجين بين العقل واللاعقل، يتقاسمون الخرافة سلوكا وترويجا مع حشد ممّن يقولون بقدرية ما يحدث للناس من ظلم وتقتيل وإبادة على أنه باب بلوغ الخلاص وظهور المخلصّين..
يشترك مروجو الخرافة مع النزعة التدميرية لبعض طروحات ما بعد الحداثة التي ترفض التنوير وتدين العقل إدانة صادمة وتقف في وجه أيّ جهود لتحرير الإنسان عن طريق توظيف العلم والتقنية والعقل، كلا الاتجاهين يسير نحو الهدف ذاته: إقصاء العقلانية والتنوير والخوض في فوضى غيبية أو فوضى التشظي والتناثر في العماء: المولعون بالغيب يُقصون العقل لصالح الخرافة والمعنيون بما بعد الحداثة يقصونه لصالح التفلّت من أيّ شكل من أشكال النظام للاستغراق في المجهولات وعشوائيّتها.
كتّاب وشعراء، لا يجرؤون على طرح سؤال الحرية والعدالة، فكلمة الحرية -بعد أن جرى تشويهها- غدت مكبّلة بأغلال التحريم ممّن يدّعون امتلاك الحقيقة المطلقة التي لا يمكن المساس بها فلا حرية ولا عدالة حين يُعطّل الفكر ويُغيّب العقل ولا يجرؤ كاتب أو شاعر أو صحفي على طرح موضوعة حرية الرأي فثمة قوى مهيمنة تتحكم بحيواتهم وأرزاقهم.
كتّابٌ كثرُ كانوا من المبشّرين بالحرية والفكر الحر انتقلوا بغتة إلى خنادق الخرافة، واحتلوا الفراغ الحاصل جراء غياب فكر نقدي فاعل، كتّاب وصحفيون يتبنون مواقف ضاغطة على الحريات والأفكار، ويروّجون للدولة الشمولية بصيغة دينية أو (سياسية دينية) ينطقون باسم الطوائف التي لا ترى العالم إلا من زاوية واحدة وتسعى لإقامة نظام حكم لا يقرّ الاختلاف ولا يقبل المختلفين، ولا يقرّ التنوع بل يفرض نمطا واحدا ومحددا للحياة يعدّ من يشذ عنه مرتدا ويحق عليه الحد والقصاص من قبل أولئك الذين وضعوا أنفسهم فوق كل قانون وضعي، بل هم فوق كل القيم أو التعاليم السماوية المبشرة بالتسامح والعدل.
يصنع البعض من الخرافة سبيلا لزج الجموع في الحظيرة الموصدة، ويحشدونها في زاوية القدرية والتواكل، وهي جموع مجوّعة مفتقرة إلى الأمان تمتلئ قلوبها مرارة وجراحا وآمالا قتيلة، ويسوّق هؤلاء خرافاتهم في متون الصحف والخطب والكتيّبات، مبشرين على نحو إنشائي وبلاغي بالدولة الفاضلة ويوتوبيا المحرومين التي ستغرق غدهم بالنعم وتيسر لهم ما تشتهي أنفسهم من شبع ومتع، هذا الغد الذي لن يأتيهم قط محمولا على متن الخرافة، ولن يكون ثمّة غد دون حاضر متسم بالعقلانية والنظرة العلمية للعالم ومجرياته ودون توظيف معطيات العلم ومنجزاته مع توفير الحد المعقول من كرامة العيش الإنساني.
وتكمن خطورة صانعي الخرافة من الكتّاب والشعراء في تسويقهم اللامع لها وترويجهم لها بأسماء وتوصيفات براقة، مُموّهين على الروافع الحقيقية لتشكيل بنية الدولة الحديثة، معتمدين على عمليات تجهيل الجموع سابقا وحاضرا، ليدفعوا بها في الصراعات الهامشية، وتهييج مشاعرها البدائية إزاء مفهومات اجتماعية معينة كوضع المرأة في المجتمع، وعمل المرأة ومشروعية ظهورها واحتجابها واحتلالها مواقع مرموقة.
أيّ كاتب هذا الذي يخون فكرة التنوير ويؤوّل ما شاء من معطيات الموروث لمصادرة الآخر ومهاجمة كل مختلف؟ وأيّ شاعر هذا الذي يتملّق مشاعر الجموع المجهّلة بتبني الغيبيات التي تعتنقها، ويزوّدها بما يعزّز غيبوبة العقل؟
كاتبة من العراق مقيم في عمان