محمد شحرور لـ "العرب": الدين لا يعطي شرعية السلطة

حثّ الباحث السوري في الفكر الإسلامي محمد شحرور المسلمين على إجراء نقد معمق لأصول الدين والثقافة الإسلامية من منظور عصري ومن ثمة إحداث ثورة تنويرية تخترق قرونا من المعتقدات البالية التي حجّرت عقلهم وسجنتهم في قوقعة عقائدية مدة طويلة من الزمن، وقد حان كسرها لترسيخ مفاهيم مثل التعددية والحقوق الدستورية.
وتحدّث صاحب القراءات المعاصرة للقرآن، في مقابلة خاصة لـ “العرب”، عن مناهج السلطات السياسية في الدول الشمولية، قائلا إن “الطغيان العقائدي والسياسي، الذي تم ترسيخه في الأمة الإسلامية، ابتداء من العصر الأموي، لعب دورا أساسيا في تهميش الناس على صعيد سياسة الدولة وسلطتها، ومازال يلعب الدور نفسه، في العالمين العربي والإسلامي، بترسيخ القناعات الجبرية في أذهان الناس وضمائرهم، على أنها جزء من العقيدة الإسلامية، بتحويلهم إلى مطاوعين لكل سلطة مهما كانت طاغية، وجعلهم يربطون كل ما يحدث من طغيان عليهم بإرادة الله. وما المآسي التي سطرها تاريخنا، ومواقف الناس السلبية اتجاهها، إلا إحدى نتائج هذا الطغيان”.
وأضاف المفكر السوري “إذا فقدت أي دولة مرجعيتها الأخلاقية تتحول بالضرورة إلى قطيع، أو بمعنى آخر إلى دولة أمنية تستعمل أجهزتها الأمنية ككلب وعصا ترهب بهما القطيع وتمنعه عن التمرّد على طغيانها، وتعاقبه بهما في حال وقوفه في وجهها ورغبته في استرداد إنسانيته المسلوبة منه بالسجن والتعذيب وحتى القتل والتشريد كما هو الحال حاليا في العديد من البلدان العربية، لأنه عندما يفقد أي نظام سياسي لأي دولة المرجعية الأخلاقية، يتحول إلى وحش مرعب لا يوقفه شيء ولا يردعه رادع عن التمادي في طغيانه، وخير مثال على ذلك الدولة السوفييتية الشيوعية، وألمانيا النازية… هذا النوع من الدول ينبني على القاعدة اللينينية التي تقول ‘يمكن لك أن تفعل أي شيء وكل شيء في سبيل الحفاظ على السلطة’، وحياة الأفراد وآراؤهم وحرياتهم لا تعني شيئا لهذه الأنظمة الفاقدة لكل مرجعية أخلاقية، التي قد يقوى فيها الطغيان ويتجبر إلى درجة أن يتحول فيها الحاكم الطاغي المستبد إلى الحاكم الإله (فرعون)، فيحول شعبه إلى مجرد قطيع يحكمه بالكلب والعصا كما فعل هتلر بالألمان، وستالين بالسوفييت والقذافي بالليبيين وصدام حسين بالعراقيين وآل الأسد بالسوريين، فهؤلاء جميعا وضعوا أنظمتهم دون مرجعية أخلاقية وظنوا أن شعوبهم وكل ما فوق أراضي دولهم ملك لهم، ومنعوا شعوبهم من حق حرية الاختيار والعيش بكرامة فسلبوها إنسانيتها كاملة حين حوّلوها إلى قطيع.
الديمقراطية الليبرالية لا تتعارض مع الدين الإسلامي بالمفهوم المعاصر والدين نفسه يدعو إلى الحرية
غير أنّ ما شهدناه من حركات التمرد على هذا الطغيان ظهرت مع ثورات الربيع العربي بتمرد الشعوب العربية والإسلامية على المعتقد الذي كان سائدا بأن ظلم الحكام وجورهم قدر محتم يجب الخضوع والاستسلام له مع الصبر عليه. لأنّ ما حدث في هذه الثورات دليل على أن تغيير الوضع في المجتمعات الإنسانية لا يمكن له أن يحدث إلا بتغيير طريقة تفكير الإنسان العربي بتطوير اعتقاداته كي يتمكن هو بنفسه من تغيير الأوضاع المحيطة به إلى الأحسن بالتمرد على المعتقدات البالية التي حجّرت العقل العربي وسجنته في قوقعة عقائدية مدة طويلة من الزمن، لبناء مجتمعات متطورة”.
استفاقة الشعوب
نبّه الباحث الحداثي إلى ضرورة رفض الشعوب استبدال أنظمة طاغية بأخرى، إسلامية كانت أم علمانية، وقال “هنا نحتاج إلى أن ننوه إلى أنّ هذه الاستفاقة القوية للشعوب العربية والإسلامية أنتجت تيارات سياسية عديدة، بغض النظر عن موقعها في السلطة أو المعارضة، وبغض النظر عن عدد الملتزمين معها قل أم كثر، بعضها يدعي العلمانية، والبعض الآخر يطرح شعار ‘الإسلام هو الحل’.
|
وأضاف “أما إذا كان الشعار يهدف إلى تحقيق نظام ديمقراطي قائم على التعددية الحزبية وحرية التعبير عن الرأي ويلتزم بالقيم الإنسانية التي بدأت مع نوح واكتملت بمحمد، مرورا بموسى وعيسى، عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام، وبالحفاظ على حقوق الإنسان وكرامته وحرياته، فهذا هو الهدف النبيل الذي يستحق التأييد والتضحية، بغض النظر عن شكل الحكم الذي يتبناه”.
وأكّد أن هذا الأمر هو “المطب” الذي وقعت فيه الحركات السياسية الإسلامية في الدول العربية والإسلامية في زمن الربيع العربي وما قبله.
وأوضح أن “هذه الحركات ترفض رفضا مطلقا الفكرة الديمقراطية والليبرالية في هيكلة الدول، وبالطبع رفض مؤسساتها الدستورية وما يلزم وجودها وبقاءها من إجراءات كالانتخابات والاستفتاءات.
وقد تم رفض كل ذلك من منطلق المفهوم المؤدلج للحاكمية الإلهية الذي أصبح عنوانا فضفاضا وهلاميا تبنته الحركات الإسلامية وأسست عليه أيديولوجيتها الخاصة، سواء الحركات التكفيرية في حكمها على عدم شرعية النظام الديمقراطي وكفرية مجتمعاته ومن ثم هدر الأنفس والأموال فيها بناء على هذا الحكم التكفيري. فهي ترى في الديمقراطية كفرا وفي الليبرالية مجونا، بحيث تنظر إلى الأولى (الديمقراطية) على أنها تدعو إلى الابتعاد عن مفهوم الحاكمية، زعما منها أن الديمقراطية تمنح الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها مع أن مصيرها بيد الله، أما الثانية أي الليبرالية فتنظر إليها على أنها تحرض على الفساد الأخلاقي، لأنها تدعو ـ حسب زعمها ـ إلى التحرر من القيود الدينية والفكرية والاجتماعية”.
وأضاف “أما الحركات الإسلامية المعتدلة، فرغم أنها قبلت نوعا ما بآلية الديمقراطية للوصول إلى السلطة لكنها بناء على أيديولوجيتها الهلامية تسعى للمطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، لكننا نتساءل أي شريعة هذه التي تقصدها؟ أتقصد تلك الموجودة في كتاب المغني لابن قدامة الأندلسي أو تلك المبثوثة في كتاب الأم للشافعي؟ لأنها في كلتا الحالتين، وبناء على أيديولوجيتها، فحتى في حالة قبولها بآلية الديمقراطية للوصول إلى السلطة والتداول عليها فإنها ما تزال غير مستعدة لمنح المخالف لها الحق في أن تكون له أيديولوجيته الخاصة، وبالتالي في حال وصولها إلى السلطة لن تتمكن من تطبيق الديمقراطية بل ستجد نفسها تدور في مطب دكتاتورية الأكثرية.
هذا المضمر الفكري لدى الحركات الإسلامية جعلها تميز نفسها عن غيرها بكونها مجسدة في ذاتها وتكوينها إطارا لحاكمية الله، لأنها ترى أنّ في داخلها الحركي يكمن الخلاص لأنها تصف نفسها دون غيرها بأنها القائمة بدين الله الموقعة عنه، فترى في سبيل غاياتها تبريرا لكل الوسائل مستحلة الأنفس والدماء والأموال براحة ضمير تامة، لأن أي توجه مهما كان، فردا أم جماعة، دينيا أو غير ذلك، عندما يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة، يصبح طاغيا حتما وبشكل آلي، ولا يبقى أي مجال للحوار معه، ولا أمل منه في قبول الرأي الآخر والتعايش معه، وتصبح المثل العليا لديه أسيرة الحقيقة المطلقة التي يتوهم أنه يملكها، فيسخر كل شيء من أجل ذلك.
وأول ما تجلت فكرة الحقيقة المطلقة هذه في التاريخ القديم، تجلت في شخص الحاكم بأنه ابن الآلهة، أو الإله نفسه، أو أنه على الأقل القائم على تنفيذ رغبات الآلهة، فالعدل المطلق فيه، والسلطة المطلقة بيده، والإلهام المطلق منه، وهذا يتنافى مع ما جاء في كتاب الله صراحة”.
وأضاف “نحن مقتنعون كل الاقتناع بأنّ الديمقراطية الليبرالية لا تتعارض مع الدين الإسلامي بالمفهوم المعاصر، فالدين نفسه يدعو إلى الديمقراطية وإلى الحرية أي الليبرالية، ويحث عليها باعتبار أن الإنسان خلق حرا كريما، ويستحق أن يقرّر مصيره بنفسه بعيدا عن الأيديولوجيات التي تحاول فرض سلطتها عليه مهما كان غطاؤها”.
الديمقراطية الليبرالية
أثنى محمد شحرور على الديمقراطية الليبرالية وقال إنها “أرقى نظام اجتماعي وسياسي توصلت إليه الإنسانية حتى الآن لممارسة الشورى كقيمة إنسانية مطلقة وردت في التنزيل الحكيم في قوله تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران 159)، فالآية تحث على وجوب الليونة والحنكة في ممارسة السياسة، لهذا طلب عز وجل من النبي صلى الله عليهم وسلم أن يكون لينا من مقام النبوة عند ممارسة الحكم ولا يكون طاغية متجبرا بل طلب منه أن يكون لينا ويشاور أمور دولته مع من حوله لأن أمور الحكم تدار بالروية والمشاورة لما فيه الصالح العام للمجتمع لهذا قال عز وجل: (…وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ…) (الشورى 38)، وبما أن هاتين الآيتين من القصص المحمدي فإن العبرة المأخوذة منهما تدعونا إلى تطبيق الديمقراطية الليبرالية كأحدث آلية لممارسة الشورى التي هي ملك للإنسانية جمعاء، وليست حكرا على أي مجتمع، والأخذ بها لا يعيب أحدا وفيها تظهر الثقافة الحقيقية للناس ودرجة الوعي التاريخي للحرية”.
وأكّد استحالة بناء دولة مدنية بالمفهوم التراثي للبيعة، ورأى أن القيم الإنسانية هي ميثاق إلهي، وقال “هذا المفهوم يعتبر طاعة الحكام والأمراء مهما كان وضعهم عادلين أو طغاة واجبة بعد استيلائهم على الحكم، لأنّ من صفات الدين التدخل في حياة الإنسان الشخصية بسلطة هي سلطة الضمير فقط لا سلطة الإكراه، لكن عندما تستعمل الدولة التي تملك أداة الإكراه سلطتها للتدخل في حياة الناس الدينية فإنها بذلك تتحول إلى دولة دكتاتورية حتى ولو كانت دينية، في حين أنّ الدولة المدنية يتم فيها احترام الدين دون إكراه.
النظام الديمقراطي القائم على التعددية والحرية والقيم الإنسانية هو الذي يربط الدنيا بالآخرة
وعليه فإن الدولة المدنية المنشودة يجب أن يكون همها الأساسي أن تكون ذات مرجعية أخلاقية عليا، لأنّ القيم الإنسانية لها ميزة أساسية تؤكد أهمية كونها مرجعية أخلاقية، بحيث أنها تحمل صفة العالمية وبالمقابل فهي لا تحمل الصفة التشريعية لأنها أعلى من التشريع. ولأنها كذلك فهي تمثل الميثاق الذي يجب أن يلتزم به الجميع في الدولة وليس فقط المسؤولون فيها، لأنه يشمل القيم الإنسانية التي فصلها التنزيل الحكيم وترك للإنسان حرية اتباعها. فالمحرمات الـ14 الواردة في التنزيل الحكيم تم حصرها وعدها حتى لا يتجرأ أحد على إضافة محرمات إلى محرماته أو تحليلها، لأن الله هو الذي خلق الإنسان ووضع فيه فطرته بما فيها من قيم تخضع للتراكم بفضل تطور مستواه المعرفي نتيجة احتكاكه بالعالم الخارجي، لهذا لا يحق لأحد وضع محرمات وقيود أخرى غير التي وضعها الله ولا يسمح لأحد بإكراه الناس عليها مهما كان”.
انطلاقا من ذلك، وللانتقال إلى دولة المواطنة والحقوق، من دولة الراعي والرعية إلى دولة الوطن والمواطنة، يقول شحرور “إنّ الدولة المدنية المبنية على هذه المرجعية تقبل الحرية الدينية لأنها لا تمارس الإكراه بما في ذلك الإكراه الديني على أحد؛ فالمواطن هو الفرد الحر في اختياراته في المجتمع بدءا من اختيار الطعام واللباس ونوع التعليم وسائر متطلبات حياته، ووصولا إلى العقيدة والمذهب وممثليه في السلطة السياسية، وهو في نفس الوقت مسؤول عن هذه الاختيارات أمام الله وضميره والمجتمع، لذا يجب أن نرفض كل المزايدات علينا في دين الله من أي كان لأن أي نوع من المزايدات في الدين إنما الغرض منه هو إخضاع الدين للسلطة أي أخذ شرعية السلطة من الدين، وبالتالي خلق نظام طاغ يمارس الإكراه على الناس ولا علاقة للدين بذلك”.