تحييد المساجد في تونس أبعد من عزل إمام

الشعارات والهتافات التي ارتفعت الجمعة الماضية في مسجد تونسي مطالبة بعودة إمام عزلته وزارة الإشراف، مثلت حدثا تجاوز مجرد الاحتجاج على قرار وزاري، بل انفتح على سؤال واسع يتصل بالفضاءات المسجدية وحدودها وأدوارها ومن المخول بضبطها.
الجمعة 2015/10/23
الشعارات الرافضة للقرار الوزاري بتحييد المساجد عجزت عن إخفاء بواعثها السياسية

تونس- واقعة جامع اللخمي في مدينة صفاقس، جنوب تونس، كانت اختصارا للقضية المتداخلة. الجامع المذكور الذي شهد مظاهرة سياسية بكل ما تحتويه الكلمة من أركان: شعارات مطالبة بعودة الإمام المعزول (رضا الجوادي) وأخرى مطالبة بسقوط وزير الشؤون الدينية (عثمان بطيخ) بل استدعت المظاهرة المسجدية شعارات الثورة من قبيل “الشعب يريد” و"الشعب مسلم ولا يستسلم" و”إرحل” وغيرها.

الحادثة التي شهدت استهجان كل من شاهدها من منطلق الرفض العام لتحول المسجد -في المطلق- إلى فضاء للعمل السياسي، كانت مترتبة عن قرار وزارة الإشراف عزل إمام الجامع المذكور، وهو قرار يأتي أيضا في سياق عزل عشرات الأئمة المحسوبين على التيار المتشدد، وهو في نهاية المطاف أحد مطالب ومضامين الحوار الوطني الذي بدأ في أكتوبر 2013، والذي شدد على “تحييد المساجد عن العمل السياسي”.

هنا تصبح للحدث المذكور، أبعاد أوسع مما يوحي بها. القضية متصلة في تونس، كما في غيرها من الأقطار العربية الإسلامية، بضرورة إعادة النظر في دور الفضاء المسجدي والنأي به عن التوظيف السياسي. وهي ضرورة نبعت من تنبه قوى وأطراف مدنية كثيرة إلى أن المساجد أصبحت تستغلّ لخدمة تيارات إسلامية محددة، ثم أصبحت تاليا فضاءات لتسويق وترويج خطاب ديني متشدد ومغال ما أسهم في صعود أسهم التيارات الجهادية المتطرفة. كانت المناداة بتحييد المساجد مفصلا أساسيا من تفطن القوى السياسية التونسية، مع قوى المجتمع المدني، إلى أن الإسلام السياسي في نسخته التونسية، وقطبها حركة النهضة مع حلفائها من التيارات والجمعيات، يستند في خوضه للمعترك السياسي على الفضاءات المسجدية وعلى مقولات تتكئ على “الهوية الإسلامية التي يفترض صونها واسترجاعها من الهيمنة التغريبية البورقيبية” حسب الأدبيات الإسلامية.

القول بمدنية الدولة يقتضي أولا تحييد المساجد عن الدعاية الحزبية والسياسية وتثمين أدوارها الدعوية والأخلاقية

القضية إذن نابعة من أن القول بمدنية الدولة يقتضي أولا تحييد المساجد عن الدعاية الحزبية والسياسية وتثمين أدوارها الدعوية والأخلاقية والروحية، لذلك بدأ المشروع محتشما مع حكومة المهدي جمعة، التي خلفت حكومة علي العريض والتي وضعت هدفا يقوم على استرجاع 150 مسجدا تقع تحت سيطرة التيارات المتشددة.

اليوم عادت القضية إلى واجهة الأحداث والتحاليل، من خلال ما ترتب عن قرار وزارة الشؤون الدينية عزل عديد الأئمة الذين عرفوا بخطاباتهم التحريضية التهييجية من أمثال رضا الجوادي ونورالدين الخادمي والبشير بن حسن ومحمد العفاس وغيرهم.

الملاحظ أن جل هؤلاء الأئمة عرفوا بقربهم أو انتمائهم إلى حركة النهضة، (الخادمي كان وزيرا للشؤون الدينية في حكومة الترويكا) وهو ما يفسر موقف الحركة الرافض بقوة للقرار حيث اعتبر راشد الغنوشي أن “مثل هذه الإجراءات تخدم الإرهاب وتغذيه”. وإصرار الوزارة على تطبيق القانون ومواقف النهضة التي تواترت على لسان أكثر من قيادي أكسبت القول بأن النهضة تقف وراء الاحتجاج ضد عزل أئمة التشدد وجاهة كبرى.

الثابت أن المسجد بوصفه فضاء دينيا يقف وسط منطقة المشترك الرمزي الجامع، يحتاج دائما لتوضيح دوره وإبعاده عن التدنيس السياسي. والفضاء المسجدي الذي يقوم دائما بأدوار تعليمية وتربوية وأخلاقية ودعوية متداخلة يفترض أن يكون متاحا للجميع، بصرف النظر عن الانتماءات السياسية. والقول بمدنية الدولة لا يتناقض مع ضرورة إشراف الدولة عبر مؤسساتها، على الفضاءات المسجدية بالعناية بها وضبط خطابها والتدخل عند كل تطرف أو انحراف.

في قرار وزارة الشؤون الدينية التونسية بعزل أئمة التشدد تأكيد على أحقية الدولة في ممارسة أدوارها ومن ضمنها ضبط المساجد والخطاب الصادر من منابرها، فالدولة هي “الجهة الوحيدة المخول لها دستوريا إدارة المساجد من خلال وزارة الشؤون الدينية التي تمتلك صلاحيات تعيين الأئمة أو عزلهم”.

مفيد التذكير أيضا بأن العديد من الجهات الدينية تساند قرار وزارة الشؤون الدينية في تونس، الساعي إلى تحييد المساجد واسترجاعها من قوى التشدد، وفي هذا الصدد شددت نقابة الأئمة الزيتونيين على أنها تدعم مبدأ “تحييد المساجد وإبعاد أئمة دخلاء لا يؤمنون بمدنية الدولة عن المنابر تم تعيينهم خلال فترة حكم الترويكا بناء على ولاءاتهم الحزبية لا بناء على كفاءتهم العلمية”.

في قرار وزارة الشؤون الدينية التونسية بعزل أئمة التشدد تأكيد على أحقية الدولة في ممارسة أدوارها ومن ضمنها ضبط المساجد

محاولة الإحاطة بالقضية من زواياها تسمح بالقول إن الدولة التونسية بدأت في إصلاح ما ترتب عن سنوات حكم الترويكا في الحقل الديني الذي شهد استقطابا حادا وتركيزا شديدا مترتبا عن تداخل الديني بالسياسي في مرحلة شهدت “ازدهار” خطب تضج بالتكفير وبالتحريض على الخصوم السياسيين.

البعد الثاني للقضية يكمن في أن الدولة التي تحاول تطبيق قوانينها، قد تخطئ في قرار أو أمر لكن مجالات رفض “الخطأ” يفترض أن تكون من جنس القرار، أي أن تقصد مؤسسة القضاء لا أن تعتمد المسجد ذاته وتغزوه بشعارات السياسة.

البعد الثالث يحيل إلى أن الجهات الرافضة للقرار الوزاري (حركة النهضة) وقعت في ازدواجية مفضوحة بين ادّعاء تبنيها لمبدأ الدولة المدنية (بإصرارها على أنها حزب سياسي مدني لا صلة له بالإخوان المسلمين) وبين سعيها لإرضاء أو مغازلة المخزون الانتخابي من الإسلاميين وهو ما أتاح لذلك المخزون بأن يعلي شعاراته في المسجد. البعد الأخير يتمثل في أن الإسلام الزيتوني التونسي لم يتردد في الإفصاح عن رأيه والدفاع عن الخطاب المعتدل، في وجه خطابات التشدد والتي وجدت لها موطئ قدم في المساجد وفي الجمعيات والأحزاب.

نخلص إلى أن قضية عزل الأئمة التكفيريين أبعد من مجرد قرار وزاري قد يراجع أو يحوّر أو قد يستقيل مصدره، لكنها قضية تذهب عميقا إلى حيث يجب الدفاع عن مدنية دولة متصالحة مع إسلامها المعتدل.

13