أسعار النفط.. والجيل الرابع من الحروب

الخميس 2015/10/22

لم يعد خافيا أن دولنا الخليجية تعيش “حرب” أسعار النفط المفروضة بالإكراه منذ أكتوبر 2014، وأن المنطقة مهددة اليوم في عمودها الفقري الاقتصادي، ومورد الرخاء والرفاه الذي تعيشه شعوبها. هذا الرفاه الذي بات نمط حياة عالي المعايير، منذ أكثر من نصف قرن، وبالتحديد مع طفرة سعر النفط في منتصف سبعينات القرن الماضي، بعد حرب أكتوبر 1973، وتحوّل هذا السائل الأسود إلى ذهب له علومه وكارتلاته واقتصاداته وبورصاته ونشراته الإخبارية، وبات وريد الحياة في بلداننا، ومحط أطماع دول كبرى تضحي من أجله بحروب واحتلالات للسيطرة على منابعه ومنافذه وطرق إمداداته.

لقد زُج بثروتنا الوطنية الرئيسية في صراعات مشروع التغيير الجيوسياسي، الشرق الأوسطي، الدموي، الذي زادت ظلاله قتامة على المنطقة منذ عام 2011، وصار هبوط أسعار النفط وآثاره المهددة لاقتصادات دول الخليج جبهة حرب جديدة، ذات شأن سياسي أكثر منه اقتصاديا، تدار بأدوات الجيل الرابع من الحروب، وهدفها خلق حالة عدم الرضى بين صفوف شعوب المنطقة عندما يخسرون نمط حياتهم المرفهة، ولربما أسوأ من ذلك، مما سيؤدي بالتأكيد إلى زعزعة الاستقرار ونشر الفوضى.

هنا نذكّر بمقولة فرانكلين روزفلت “لا شيء يحدث على سبيل الصدفة في عالم السياسة، وإذا حدث ذلك فاعلم أنه مخطط له كي يظهر وكأن كل شيء قد حدث على سبيل الصدفة”.

نعم، لقد تجاوز هبوط أسعار النفط جميع التوقعات، ولايزال تقدير مستويات الأسعار القادمة مبهما… وحتى الآن لم يتم التأكيد على سبب واحد لهذه الظاهرة النفطية الخطيرة يتفق علميا مع التقديرات الاقتصادية المعروفة دوليا، بل إن الأسباب المعلنة (العرض والطلب) لا تناسب حجم الحدث وأعراضه، ولا تاريخ سوق النفط.

في سبتمبر 2013، أصدر مركز بروكنجز الدوحة (أهم مراكز الدراسات الأميركية)، بحثا بعنوان “ملوك لكل الفصول: كيف اجتازت الأنظمة الملكية في الشرق الأوسط عاصفة الربيع العربي”، للباحث غريغوري غوس، يهتم بتحليل دور النفط في استقرار الأنظمة الملكية العربية التي لم تسقط “رغم توفر كل أسباب الضغط والحشد الشعبي لهذا الغرض” حسب الباحث في إشارة إلى أحداث عام 2011. وعلى عكس عنوانه، ورغم التمويه اللفظي المستخدم، يُعَدُّ هذا البحث محاولة جادة في تحديد سبل إسقاط هذه الملكيات عبر استهداف مفاصل قوتها وأسباب استقرارها، التي يذكرها الباحث ليس من باب استعراض محاسن هذه الأنظمة التي تمكنت من الصمود أمام السيل الجارف في تلك الأحداث، وإنما بهدف الوصول إلى تشخيص نقاط قوتها التي يجب أن تُدمر لتمرير المشروع الشرق الأوسطي المطروح.

يركز البحث على عامليْن رئيسيين في قوة الأنظمة العربية الملكية الثمانية، المتكونة من دول مجلس التعاون الخليجي مع الأردن والمغرب؛ الأول هو العامل الثقافي المميّز الذي يربط بين شعوب المنطقة والعوائل الملكية الحاكمة فيها، والثاني هو عامل الرفاهية والرخاء الذي وفرته هذه الملكيات لشعوبها، إلا أن هذين السببين لم يقنعا الباحث بجودة أداء هذه الأنظمة، وجدارتها في البقاء، لأنه يرى أن الملكيات العربية مكونات غريبة في المنظومة الدولية الحديثة، ولا يجب أن تستمر، وأنها لا تملك الشرعية التي تملكها الجمهوريات التي تحتكم لصناديق الانتخابات، وهنا لم ينس أن يستشهد بالعراق، رغم كل الخراب والدمار والفساد والبؤس والإرهاب والدموية والأوبئة التي يعيشها الشعب العراقي، كنموذج من الأنظمة الجمهورية التي تمتلك الشرعية لأنها فقط تلجأ لصندوق الانتخاب… فالباحث هنا يختار أي الأنظمة أفضل لدولنا ولشعوبنا، ويرى أن نظام المحاصصة الطائفية الميليشياوية والفوضى والدموية والفقر والبطالة وشعبا بائسا مع النموذج الغربي لديمقراطية صناديق الانتخاب، أفضل وأحسن من حياة الرفاه والرخاء التي تعيشها شعوبنا مع النموذج الديمقراطي الذي نختاره ونصيغه لأنفسنا. وفي ذلك يؤكد الباحث أن العامل الرئيس الذي يدعم استقرار أنظمة الحكم الملكية واستمرارها في خليجنا العربي، هو ثروة النفط والوفرة المالية، التي تدعم رفاه المنطقة ورخاءها. وفي أربع فقرات موجزة يشير إلى أن القضاء على هذه الثروة هو السبيل لسقوط الملكيات.

ولا يفوتنا هنا أن أؤكد (كمواطنة خليجية) على صحة بعض عوامل استقرار بلداننا كما جاء في البحث، وهي عوامل نعتبرها إيجابية وليست سلبية كما حاول الباحث الإيهام بها، مع مبدأ أن أهداف أي مشروع تنموي هي إسعاد الشعوب ورفاهها، وإن ما تحقق في الأنظمة الملكية الخليجية من نجاح تنموي يستوجب عليه الشكر والتقدير وليس الإسقاط والتدمير.

ونؤكد في الجانب الآخر خطأ العوامل الأخرى التي حاول الباحث زجها كرأي شخصي دون الأخذ في الاعتبار معايير النجاح التي حققتها هذه الأنظمة الملكية (راجع البحث على الموقع الإلكتروني للمركز)، مما أفقد البحث الكثير من الموضوعية العلمية، ليصل إلى نتيجة واحدة وهي: إسقاط دولنا عبر خلق حالة من السخط الشعبي وزعزعة الاستقرار من باب الاقتصاد واستنفاد عائداتنا النفطية.

ويضيف الباحث أن “الدول النفطية ذات الأنظمة الملكية” أخذت “على عاتقها التزامات إنفاق جديدة – رواتب مرتفعة للموظفين الحكوميين، وظائف حكومية جديدة، إعانات جديدة ووعود بالإنفاق على مشاريع إنشاء بنى تحتية – لتفادي السخط الشعبي خلال الربيع العربي”، في محاولة لتسفيه كل الخطط والمشاريع التنموية الناجحة التي تعيشها بلداننا على مدار أكثر من نصف قرن لتحقيق الرفاهية لشعوبها، بالاستغلال الجيد للثروة النفطية.

ويعود ليؤكد أن الاستقرار الأمني في هذه الدول مدعوم بالاستقرار الاقتصادي الذي يعتمد على عامل النفط، و”لعل أكبر تهديد يواجه الاستقرار في الدول النفطية ذات الأنظمة الملكية يكمن في انخفاض أسعار النفط بشكل كبير”، ولا يستثني الباحث هنا الدول الملكية الأخرى التي لا تعد مصدّرة للنفط وتعتمد “على المساعدات المباشرة من حلفائها في الخليج”. إذن الهدف هنا هو تخفيض أسعار النفط.

ولكن كيف يمكن تخفيض أسعار النفط وتحقيق الهدف المطلوب؟ هنا يشير الباحث إلى أن سعر التعادل المحدد للنفط في هذه الدول يشهد ارتفاعا “أي أن سعر البرميل الواحد يسمح لهذه الدول بتأمين تمويل كامل لميزانيات حكوماتها. ولا يتفق المحللون كثيرا على ماهية سعر تعادل دول الخليج، إلا أن لا أحد منهم يتوقع أن يكون بالنسبة إلى الدول ذات الأنظمة الملكية (باستثناء البحرين) أعلى من سعر النفط الحالي” (في سبتمبر 2013). ويرى الباحث أيضا أن مصدر القلق الذي يؤرق ملوك دول النفط يكمن “في أن ثورة الطاقة في الولايات المتحدة والتي كثر الحديث عنها، ستؤدي إلى انخفاض أسعار النفط إلى مستويات أقل بكثير خلال السنوات القليلة المقبلة، وأقل من أسعار التبادل”.

ولإحكام السيطرة لم يفت الباحث التذكير بما تمتلكه هذه الدول من احتياطات مالية، تراكمت نتيجة لارتفاع أسعار النفط في الفترة السابقة، والتي تعد هائلة على المدى القصير، حسب وجهة نظره، وبلعبة الأرقام، يوحي بأنه حتى لو انخفضت العائدات النفطية بنسبة 30 بالمئة “ستستمر هذه الدول في المحافظة على مستوى الإنفاق الحالي” (2013)، لأنها ستمول العجز مما تملكه من احتياطيات، مما يحافظ على وضع اقتصادي آمن “للدول الملكية النفطية”، على المدى القريب “إن بقيت أسعار النفط مستقرة، أو على الأقل تجنبت الانخفاض الحاد”. وهنا يؤكد أن هذه الملكيات ستواجه مشاكل كبيرة في حال تراجعت أسعار النفط، نتيجة الالتزامات المالية الجديدة التي أنفقتها في فترة أحداث عام 2011 (ملاحظة: شهدت أسعار النفط منذ أكتوبر 2014 وحتى اليوم انخفاضا حادا يصل إلى أكثر من 50 بالمئة أي أكثر من 30 بالمئة التي ذكرها الباحث).

بشيء من التمويه والتلميح، يشير الباحث إلى أن توقعات زعزعة الاستقرار في دولنا الملكية لا تعتبر ظاهرة جديدة رغم عدم تحققها، داعما رأيه ببعض الأحداث التاريخية غير المترابطة، كما لا يصنف هذه الملكيات في خانة شبيهاتها في العالم، بل يلح على أنه “استنادا إلى تاريخهم، يميل الأميركيون على المستوى الشعبي، إلى النظر بلامبالاة إلى النظام الملكي كنظام سياسي”، في إشارة واضحة إلى رأيه السلبي ضد هذه الأنظمة، وإنه لعدم “الانضمام إلى طابور أولئك الذين أخطأوا حين توقعوا انهيار هذه الأنظمة الملكية، من الأفضل فهم كيف تمكنت من الاستمرار طوال هذه السنوات وهي على حالها”.

رغم الأسلوب الحذر الذي اتبعه الباحث لعدم الوقوع في خطأ التحريض على إسقاط أنظمة دول لأهواء خارجية، إلا أن البحث يؤكد أن حرب أسعار النفط (المفتعلة) تستهدف إغراق منطقة الخليج في الفوضى عبر زعزعة الاستقرار والرخاء الاقتصادي، وكسر الروابط التاريخية والاجتماعية والثقافية التي تجمع شعوب هذه المملكات العربية مع أنظمة الحكم فيها، ولقد بدأت هذه الحرب في العام التالي لصدور هذا البحث… وهناك المزيد.

كاتبة بحرينية

8