لعبة موسكو في سوريا: خداع للمعارضة وانحياز دائم للنظام
حاولت السياسة الروسية طوال أربع سنوات استقطاب المعارضة السورية أو بعضا منها، وأسمعتها كلاما معسولا وقدّمت لها وعودا براقة. لكن بالمقابل تبيّن أنّ موسكو قد كانت تخدع تلك التشكيلات المعارضة كل هذه الفترة، ولعبت معها لعبة “الكشتبان” (أو ما يعرف بلعبة الثلاث ورقات)، ولم تف بأي وعد أطلقته ولم تلتزم بأي مبدأ أعلنت عنه، واستخدمت الحيلة لأبعد حد لتمرير سياساتها، فيما لم يستفد كثير من السوريين من التجربة الفاشلة التي مرّوا بها مع حُكّام الكرملين.
فمع بداية الثورة السورية تواصلت روسيا مع معارضين سوريين تقليديين، وسعت لأن يكون هناك خيوط لا تنقطع معهم، ولعبت مع اليساريين منهم على وتر ثورة أكتوبر ودولة العمال ودكتاتورية البروليتاريا ودعم ثورات الشعوب المضطهدة، فصدّقها رهط منهم وساروا معها، ودعمت مطالبهم الوسطية، وشددت على اللاعنف في خطابهم. لكن اتّضح فيما بعد أن روسيا التي لم توقف يوماً إرسال السلاح للنظام، هي الوقود السري للعنف المحتدم في سوريا.
وقد وسّعت روسيا مروحة تحركاتها السياسية، وشجّعت بدء تواصل بين إيران وبعض أطراف المعارضة السورية، وبالفعل نجحت نسبياً، حتى أنّ بعض قوى المعارضة السورية نسيت أن إيران مورطة حتى النخاع بالدم السوري. وأثنت روسيا على هذه العلاقة، وأخطأت المعارضة السورية بثقتها بالطرفين؛ ففور عودة أحد رموز الثورة والمعارضة من زيارة مزدوجة أداها إلى روسيا وإيران أخفاه النظام لأنه خرج عن السكة التي رسمها الروس لهؤلاء المعارضين.
وفي استرجاع آخر للموقف الروسي، لطالما أكّدت روسيا للمعارضة السورية أنها غير متمسكة ببقاء الأسد، وأنها تتشدد بمواقفها أحياناً من منطلق حرصها على عدم انهيار سوريا، ومرّت الخدعة على معارضين كثر. لكن سرعان ما ينكشف عدم صدق نوايا موسكو عندما تشعر أن النظام السوري ضعيف، فتتراجع عن كل ما سبق من تصريحات وتؤكد من جديد على دعمها الكامل له وعدم وجود فرصة لتغيير موقفها، دون أن يخطر ببالها أن حبل كذبها كان قصيرا مع المعارضة السورية.
وقد حاولت روسيا بعد ذلك استقطاب المعارضة السورية وأوحت لها بأنها وسيط حيادي نزيه لا يهمه سوى مصلحة الشعب السوري ويحرص على تماسك الدولة (لا النظام)، ووجهت دعوات كثيرة لمعارضين بصفتهم الشخصية أو كممثلين لقواهم وتياراتهم المعارضة، ولم تُقدّم لهم ما يتجاوز هذا الموقف، ووعدت المعتدلين منهم بأنها حليفة أبدية لهم، وأنها سوف تُشركهم في مؤتمر جنيف كممثلين للثورة، وهو ما لم يحصل، بل وباعتهم (في ليلة لا قمر فيها)، ولم يروا جنيف ولم تراهم.
استمرت السياسة الروسية في خداع المعارضة السورية، فاقترحت مبادرات لحل الأزمة السورية بطرق سياسية، لكن سرعان ما تبيّن أنها مبادرة داعمة للنظام قال عنها معارضون إنها مبادرات مكتوبة بفروع أمنية سورية.
كذلك دعت موسكو للقاء تشاوري أول يجمع المعارضة بالنظام، وكان تركيبة فوضوية من الحضور وتوليفة من النقاشات العبثية المسيئة للمعارضة السورية، وفي نهاية اللقاء خدعت هذه المعارضة وأصدرت بياناً يدعم بقاء النظام ويدعو لمحاربة الإرهاب بالتعاون معه، ويرفض كل أشكال التغيير السياسي القسري في سوريا، ويحرص على المصالحة بل والاعتذار للنظام، ثم دعت للقاء موسكو 2، وكان أسوأ من سابقه، فلا هو حقق أي تقدّم وزاد من تشرذم المعارضة السورية ومن حدة خلافاتها، كما زاد من عدم ثقة الشعب بالمعارضة التي يُفترض أنها تحمل همومه وأحلامه، وحققت موسكو ما أرادته من وراء هذين اللقاءين.
ورفعت معارضات سورية شعارات “لا للتدخل العسكري”، وحاولت موسكو عمل استقطاب سياسي بين المعارضات السورية انطلاقاً من هذا الشعار، وشجّعت هذا التيار وضخّمت فيه رغم لا شعبيته، واتّضح بعد زمن أن التدخل العسكري الروسي ثابت ومؤكد، وأن دعم موسكو لشعارات المعارضة السورية الرافضة للتدخل كان لعبة سياسية، ولم تُكلّف نفسها مشقة شرح سبب تناقض أقوالها مع أفعالها.
بدأت روسيا تدخلها العسكري المباشر في سوريا، وتبيّن أن كل ما قالته للمعارضة السورية عن رفضها للتدخل العسكري كان غير صحيح، أو بلغة الدبلوماسية، كان مناورة سياسية، واتّضح أن كل وعودها للمعارضة السورية كان خدعة، وأنها لم ولن تكون إلا دولة منحازة تماماً إلى حليفها بدمشق على حساب الشعب السوري.
ورغم كل هذا الخداع، وهؤلاء المخدوعين، لا يمكن الجزم حتى الآن بأن المعارضة السورية قد اتّعظت أو استفادت من تجربتها مع روسيا، وفي الغالب لم يحدث هذا الأمر، وربما نرى جولات أخرى من الخداع والمخدوعين الذين لم يدركوا بعد أن روسيا لا يمكن أن تَصدُق معهم.