الجيش الانكشاري يعود من جديد
يرجع تأسيس القوات الانكشارية في الدولة العثمانية إلى مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، حيث شكّل السلطان أورخان الأول قوات عسكرية خاصة. وكانت الفكرة عند تأسيس الجيش هي أن هذه القوات هي تشكيلات مؤقتة، وبقيت كذلك حتى عهد السلطان مراد الأول حيث أصبحت دائمة.
أراد نظام السلطنة من تأسيس الجيش الانكشاري أن يُوجد قوات أفضل تدريبا وتنظيما و(عدوانية) من الجيش النظامي الذي كان مترهلا وفاسدا ومتخلفا مهنيا وعسكريا، ولذلك أخضع المنتسبون للقوات الانكشارية لدورات تدريب كثيفة وذات برامج حديثة بما في ذلك إعدادهم علميا وتربويا. وكان المنتسبون أطفالا يُنتقون ويُبعدون عن ذويهم وتتم تربيتهم على أن السلطان هو الأب وولي النعمة وله طابع التقديس في نفوسهم. ويُهيؤون ذهنيا ونفسيا لعقيدة جديدة، جوهرها الإخلاص المطلق والأعمى للسلطان والنظام السياسي القائم واعتبار المعارضين أعداء للنظام وأعداء الله والإسلام والإنسانية كلها.
وكان من جملة الأساليب التي اتبعها السلاطين أن أغرقوا القوات الانكشارية بامتيازات ومكاسب طالت ضباطها وجنودها ومؤسساتها العديدة التي كانت تعود بالنفع على منتسبيها. وفي الخلاصة كانت فرق القوات الانكشارية مدربة وذات تسليح متقدم وعصري في حينه ومخلصة بلا حدود للسلطان ونظامه السياسي ومهيأة لضبط الداخل وقمع المعارضة.
وكان السلطان يقود الجيش الانكشاري في الحروب الخارجية، كما كان رئيس الجيش الانكشاري هو رئيس الشرطة والأمن الداخلي مما يؤكد مهماته القمعية الداخلية، وبالفعل فقد أخاف السلاطين جميع شرائح المجتمع، المعارضة والموالية، وجميع أفراد النخبة السياسية الطامعين بالعرش أو السلطة.
أدى تراكم ظروف داخلية وصراعات عديدة أيضا، واتساع حجم الإمبراطورية العثمانية، وعجز السلطنة عن إدارتها، وتفشي الفساد والاستبداد، إلى ضعف الإمبراطورية وضعف جيشها النظامي وتخلفه، واضطر النظام السياسي إلى مزيد من الاعتماد على الجيش الانكشاري.
وأصبح هذا الجيش هو القوة الرئيسة في البلاد. وصارت الدولة برمتها دولته كما الدولة في الأنظمة الشمولية في عصرنا دولة أمنية. ولم يعد هذا الجيش وضبّاطه وحتى أفراده يلتزمون بالقانون وبالنظام وبالتقاليد والقيم، فتحول إلى عصابات مسلحة تهين الناس وتبتزهم، بل تطورت تدخلاته في عمل الدولة حتى صار هو الذي يعين الصدر الأعظم أي رئيس الوزراء، وقائد الجيش النظامي، وشيخ الإسلام (المفتي)، كما يأمر بعزلهم بل قتلهم. وفي الخلاصة أصبحت السلطة الحقيقية بيد الجيش الانكشاري، فأخذ يحكم الناس ويطبق قوانينه حتى صار عبئا على السلطان والإدارة والمجتمع، إلى أن اضطر السلطان محمود الثاني إلى أن يدك ثكناته بالمدفعية ويحله.
في أيامنا، ورغم أن مهمة الجيش هي الدفاع عن استقلال البلاد ضد الغزو الخارجي، إلا أن بعض الأنظمة العربية لجأت إلى تشكيل قوات عسكرية موازية للجيش، وأبعدتها عن مهماتها الأصلية، وحولتها إلى حليف لفئة واحدة من الشعب هي الفئة الحاكمة، وسمحت لها بالتدخل في الشؤون الداخلية، وقدمت لها الامتيازات بغير حق.
ولجأت بعض الأنظمة الشمولية إلى تأسيس قوات عسكرية “انكشارية”، أعطتها أسماء متعددة ومتنوعة مثل الأمن المركزي، القوات الخاصة، الحرس الجمهوري، سرايا الدفاع، قوات النخبة، أجهزة أمن الدولة والأمن السياسي، الحرس الثوري وغيرها. كما أعطتها صلاحيات ومزايا استثنائية منها صلاحية التدخل في شؤون الناس وقمع المعارضة وتأييد السلطة الحاكمة ظالمة أم مظلومة، وهكذا تحولت هذه القوات من قوات عسكرية مهمتها الدفاع عن الوطن والدولة والشعب إلى قوات تهتم بالدفاع عن السلطة والنظام السياسي ومواجهة الشعب، وكلما ضعفت الدولة كلما ازدادت حصة هذه القوات في الشراكة وسطوتها، وتعيد قصة الانكشارية بذلك نفسها، فلكل عصر انكشاريته.
كاتب سوري