كلنا مهددون وكلنا مدانون
رغم العنف الذي يغمر الأجواء، رغم التطرّف الذي يملأ الأرجاء، رغم الخوف الذي يقتل الرّجاء، سأظل مقتنعا بوجود مسلمين سلميين مسالمين غير متعصبين هم الأغلبية فيما أظن.
لا يمكنني نكران وجودهم فإنهم أهلي وأصدقائي وجيراني، وأنا واحد منهم. ولولا وجود هؤلاء المسلمين الطيبين العاشقين للشمس وغير الجاحدين بنعمة الحياة ما وُجدت البهجة العارمة في مراكش، وما وجدت الدعابة الدّائمة في القاهرة، وما وجدت الحيوية المحتدمة في دبي، وما وجدت الابتسامة المحمومة في جكارتا، لولاهم ما وُجدنا نحن الهائمون في دروب الحياة كفاحا من أجل الخبز والحب والحرية، وسويعات سعادة نغنمها أحيانا وننعم بها في زحمة الأوقات، لولاهم لكان كل شبر من أوطاننا خرابا في خراب منذ الأزل إلى الأزل.
وهذا عندما نتكلم عن نصف الكأس الممتلئ. غير أن الإفراط في التفاؤل يحتاج إلى غباء مفرط في واقع ينخفض فيه مستوى النصف المملوء من الكأس وينحدر من درجة إلى درجة. إن الإفراط في التفاؤل هو الفخ الذي يقع فيه الكثيرون. وهذا لا يليق. طبعا لا أنكر وجود أغلبية عاقلة غير متعصبة، أغلبية لا يمثل الدين عندها أي عصاب وسواسي، أغلبية تمتدّ من أرض السينغال إلى أرخبيل أندونيسيا، لكن ليس بوسعي في المقابل أن أتغاضى أو أغض الطرف عن سؤال كبير لا أحد من المسلمين أجاب عنه. إنه السؤال الذي لا يجيب عنه المسلمون. وغياب الإجابة يساهم في إفراغ نصف الكأس المملوء. ما السؤال؟
|
لا أحد ينكر هذا: الإرهاب التكفيري المعولم يشوّه صورة الإسلام، ويُسيء لسُمعة المسلمين، ويختزل تاريخهم وحضارتهم وعقيدتهم وسنّة نبيهم في مجرّد قتل وذبح وسبي وحرق وتخريب. الكل يدرك هذا الأمر ويتجرّع مرارته. لكن السّؤال المتروك: إذا كان الإرهاب يشوه الإسلام ويسيء لعقيدة المسلمين، فلماذا لم نرَ المسلمين يبادرون للخروج في مظاهرات احتجاجية عارمة ضدّ هذا الإرهاب المسيء للإسلام؟ لماذا لم يملؤوا شوارع إسلام أباد وكراتشي والخرطوم وطرابلس بعفوية وتلقائية كما اعتادوا كلما أسيء إلى الإسلام من طرف شخص غير مسلم؟ لماذا لا يتظاهرون تنديدا بجرائم وحشية يعتبرونها مسيئة لدين الرّحمة والوسطيّة والاعتدال؟ لماذا لم يدع الإسلاميون المعتدلون -إن بقي بينهم من معتدلين- إلى الاحتجاج على جرائم الإرهاب التي تسيء لهم قبل غيرهم، أو هكذا يُفترض؟ لماذا لم يستنفر شيوخ الفضائيات الناس للخروج في مظاهرات لنصرة إسلام الرحمة والسماحة والتبرؤ من القتلة الإرهابيين؟
وعلى افتراض أن المسلمين أبرياء من الإرهاب براءة الذئب من دم يوسف، وأنّ الإسلام أشدّ براءة منهم، وأنّ الإرهاب في الأخير صناعة صهيو-أميركية، أو صهيو-ماسونية، لغاية ضرب الإسلام وتهديد أمن المسلمين وتشويه عقيدتهم كما يردد هواة نظرية المؤامرة، أليس هذا مبررا كافيا للخروج في مظاهرات عارمة ضدّ هذا الإرهاب الصهيو-أميركي أو الصهيو-ماسوني، أم أن خيط الكذب على الذات قصير جدا؟
بكل بساطة فهذا هو السؤال: أيها المسلمون لماذا أنتم مشلولون أمام إرهاب يسيء لدينكم؟
هنا بالذات تكمن ثغرة كبرى في جدار الأمن الثقافي، وهي نقطة الضعف الأهم في الحرب على الإرهاب، ثغرة يكرسها ويرسخها خطاب ديني مهيمن في المساجد والمنابر والمدارس ووسائل الإعلام، خطاب كان ولا يزال ينمّي ثقافة الكراهية والحقد والشماتة والتشفي، ويسترخص حياة “الكفار” و“أهل البدع” على قاعدة الولاء والبراء، بل يسترخص حياة الإنسان برمتها على قاعدة “كراهة الدنيا وحب الموت” وأن الدنيا لا تساوي عند الله “جناح بعوضة”، وما شابه ذلك من مرويات. وبعد هذا، كيف يمكن بناء مشروع حياتي طموح أو مشروع مجتمعي لتنمية مستدامة أو مشروع إنساني لعولمة منصفة وعادلة فوق “جناح بعوضة”؟ هنا مكمن الخلل داخل بنية الخطاب الديني للمسلمين. الضربات الإرهابية التي نفذها تنظيم داعش -أو نفذت باسمه- بنحو متزامن في كل من الكويت وتونس وفرنسا يوم الجمعة 26 يونيو -وقد نفذها مسلمون من جنسيات مختلفة- وتسببت في سقوط العشرات من الشّهداء، تحمل رسالة صريحة واضحة تقول: إننا موجودون في كل مكان، قادرون على فتح جبهات عدّة في نفس الآن، قادرون على تشتيت جهودكم واستنزافكم. وهنا جوهر المسألة، فهل يتعلق الأمر بآفة قادرة على التوغل في كل مكان؟ أم أن الداء متوغل كامن ينتظر في كل مرّة ساعة الصفر؟
الاعتداء الأوّل استهدف مصنعا للغاز في مدينة ليون الفرنسية عبر ذبح رب المعمل ومحاولة تفجير المصنع؛ الاعتداء الثاني استهدف مسجد الإمام الصادق في الكويت عن طريق تفجير انتحاري أثناء صلاة الجمعة؛ الاعتداء الثالث استهدف فندقا سياحيا بمحافظة سوسة في تونس بواسطة إطلاق النار.
وبهذا النحو تبدو الضربات الثلاث مدروسة وموجعة: من حيث الزّمان، اختارت يوم جمعة من شهر رمضان لإضفاء مزيد من الشرعية الدينية على الجرائم الإرهابية؛ ومن حيث الأهداف: يندرج اعتداء الكويت ضمن مخطط طويل لإشعال الفتنة الطائفية في دول الخليج؛ ويندرج اعتداء تونس ضمن مخطط طويل لضرب السياحة في شمال أفريقيا وضرب أي تقارب حضاري بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط؛ ويندرج اعتداء فرنسا ضمن مشروع يبتغي إجهاض فكرة اندماج المسلمين في مجتمعات “دار الحرب”، أي الحضارة الغربية.
إننا أمام وحش جحيمي يوشك أن يلتهمنا فلا يترك منا أثرا باقيا غير الخراب. غير أن المواجهة لا تزال ممكنة، لكن شريطة أن ندرك كيف أنّ الوحش اللعين كان ولا يزال ينمو بين أحشائنا في صمت وكتمان، مستغلا هشاشتنا وضعف جهاز مناعتنا، وهذا بسبب الخطاب الفقهي “الرّسمي”، و”شبه الرّسمي”، المفعم بمناهضة الحريات الفردية وحقوق الأقليات والمساواة الكاملة مع المرأة. هنا مربط الفرس. وفي هذه القضايا، كلنا مُهدَّدون وكلنا مُدانون.
كاتب مغربي