الكتاب الرقمي والديمقراطية المعرفية

السبت 2015/06/27
زوال عصر المكتبات الورقية العملاقة

كان جيش الإمبراطورية الرومانية قد فعل فعلته كاملة وبإتقان شديد حين دخل إلى مدينة تدمر ليقضي على استقلالها، وكان تاج أفعاله قد تجلى بقيام جنوده بإحراق مكتبة المدينة.

وعلى شاطئ المتوسط في مدينة الإسكندرية المصرية، مازال المؤرخون في حيرة بين تثبيت اتهام جيش المسلمين بحرق مكتبة المدينة، وبين نفي ذلك، ورغم أن بعض التواريخ سجلت أعمالاً شنيعة جداً لهولاكو، كالقتل والتدمير إلا أنها ميزت بينها، قيام جنوده بتدمير مكتبتين هامتين في التاريخ الإسلامي؛ مكتبة قلعة ألموت الإسماعيلية التي أنشأها الحسن الصباح وسط جبال البرز أو جبال الديلم جنوب بحر قزوين، ومكتبة بغداد التي تقول السرديات العربية إن حبر كتبها اختلط بماء نهر دجلة فجعله أسود قاتماً بعد أن رميت فيه.

وفي العصر الحديث سجلت لنا أقلام المؤرخين وأفلام السينما صوراً عديدة للغوغاء المدفوعين من قبل سياسات الأفكار الفاشية وهم يحرقون كتب المفكرين التقدميين.

ذكريات الكتب

غير أن السؤال الذي يلف كل هذه الذكريات السيئة للكتب والمكتبات لا يتوقف عند الدوافع التي تجعل من الكتاب هدفاً لهذا الطيش المتهافت للعقل الآخر، بل إنه يمتد ليصل إلى البحث عن الأسلوب الأمثل للدفاع عن العقل ذاته، بعد أن سطر ذاته عبر مداد الأقلام ومساحات الأوراق.

فكم من كتاب هام خسرته البشرية حين أحرقته أيدي الرعاع، وكم من كاتب ضاع صيته وتاريخه، حين قتلت إرثه شعلة نار حمقاء في يد رجل أشد حمقاً تبع سياسة يقودها رجل أبله. وهكذا فإن الأفكار المبنية على تاريخ كامل لعمليات إبادة واحد من أهم أدوات توصيل المعرفة في تاريخ الإنسانية، تدفع مباشرة إلى ما يمكن أن تقدمه القفزات التكنولوجية من أجل حماية المعرفة الإنسانية وتاريخها من خطر الإبادة الشاملة. الجواب المأمول عن هذا الهاجس وفرته ومنذ عدة عقود فكرة الكتاب الرقمي أو الكتاب الإلكتروني.

الكتاب الإلكتروني

يمكن لتعريف تقني إجرائي بسيط أن يعبّر عن المطلوب، من مثل أن الكتاب الإلكتروني هو “المستندات النصية التي تمّ تحويلها ونشرها في شكل إلكتروني، يعرض على قارئ الكتاب الإلكتروني أو الأجهزة الإلكترونية الأخرى أو أجهزة الكمبيوتر”.

ظهور "كتاب غوغل" يشكل علامة فارقة في تاريخ النشر الإلكتروني، حيث يسعى المشروع إلى إنشاء أضخم مكتبة إلكترونية على الشبكة وباتفاق مع خمس من أكبر مكتبات العالم هي مكتبة نيويورك العامة ومكتبة جامعة ميتشيغان ومكتبة أكسفورد ومكتبة هارفارد ومكتبة ستانفورد

وطبقاً لهذا التعريف فإن الأمر يتحدد عبر منحيين، أولهما الشكل الإلكتروني للمستندات النصية، وثانيهماً هو الأداة التي يتم من خلالها عرض المستند. وضمن المنحى الأول فإن تاريخ التقنيات أفضى إلى أن يتم التعاطي مع الكتاب الورقي في البداية وتصوير أوراقه عبر الماسح الضوئي، وتحويلها إلى ملفات إلكترونية، ولتتطور العملية إلى نشر الكتاب الورقي عبر نسخة إلكترونية وعبر لواحق خاصة، بات مستخدمو الكومبيوتر يعرفونها وهي: نسق المستندات المنقولة (PDF) والذي يحتاج لبرنامج برنامج أدوبي أكروبات من شركة أدوبي سيستمز، والأنساق البسيطة (TXT وRTF) سهلة الإنشاء بواسطة برنامجي Notepad وWordpad في نظام مايكروسوفت ويندوز. ونسق لغة رقم النص الفائق (HTML): ويستخدم لصنع كتب إلكترونية تعرض للتصفح والطباعة على شبكة الإنترنت.

ونسقePub وهو صيغة مفتوحة المصدر من صيغ الكتب الإلكترونية، واسم ملفاتها مشتق من العبارة Electronic Publication وتعني “النشر الإلكتروني”، أما نسق DjVu فهو نوع من الملفات يفتح بواسطة برنامج مساعد، وأخيراً نسق Microsoft Word الذي يأتي مع حزمة برامج الأوفيس.

معرفة المستخدم بهذه الأنساق مهمة جداً، إذ أن عليه تحديد إمكانية توفر برامج معينة لقراءتها في الأداة التي يستخدمها، والتي لم تعد تقتصر على جهاز الكومبيوتر الشخصي أو المحمول، بل توسعت إلى أجهزة الأيباد iPad، وأجهزة الهواتف الذكية، ولتصل أخيراً إلى أجهزة لوحية خاصة بقراءة الكتب الإلكترونية.

المكتبة الرقمية

بدأ أول مشروع عالمي لإنشاء مكتبة إلكترونية في مرحلة مبكرة من تاريخ تطور شبكة الإنترنت، ففي العام 1971 أطلق مايكل هارت مشروع أول مكتبة إلكترونية حملت اسم غوتنبرغ (مخترع الطباعة) ليشكل أكبر تجمع للكتب الإلكترونية المجانية ولا يزال مستمراً حتى اليوم.

وفي العام 1987 يظهر مشروع مكتبة فرساوس الرقمية، تحت إشراف جامعة تافتس في ولاية ماساتشوستس في الولايات المتحدة، وهدف إلى جمع وتقديم المواد اللازمة للدراسة عن اليونان القديمة، وقد تم نشره على شبكة الإنترنت في العام 1995 بعد أن توسع المشروع عن نطاقه الأصلي ليشمل مجالات علمية عديدة.

وكذلك ظهر في العام 1990 مشروع الذاكرة الأميركية، الذي أنشئ في مكتبة الكونجرس الأميركي، ليحوي كتبا رقمية عن التاريخ الأميركي إضافة إلى مواد أخرى متنوعة.

وبعد هذا التاريخ توالى ظهور المكتبات الإلكترونية مع تحول الإنترنت إلى شبكة عامة، فظهرت في العام1991 مكتبة شبكة المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية CERN، ومكتبة أرشيف الإنترنت في العام 1996، ثم لحقت بها مكتبة الشبكة الناشر التجاري الأول في العام 1998، ثم مشروع كتاب غوغل Google Book Project في العام 2004. الذي شكل ظهوره علامة فارقة في تاريخ الكتاب الإلكتروني، حيث سعى إلى إنشاء أضخم مكتبة إلكترونية على الشبكة وباتفاق مع خمس من أكبر مكتبات العالم هي مكتبة نيويورك العامة ومكتبة جامعة ميتشيغان ومكتبة أكسفورد ومكتبة هارفارد ومكتبة ستانفورد.

معرفة المستخدم بهذه الأنساق مهمة جداً، إذ أن عليه تحديد إمكانية توفر برامج معينة لقراءتها في الأداة التي يستخدمها، والتي لم تعد تقتصر على جهاز الكومبيوتر الشخصي أو المحمول، بل توسعت إلى أجهزة الأيباد iPad، وأجهزة الهواتف الذكية، ولتصل أخيراً إلى أجهزة لوحية خاصة بقراءة الكتب الإلكترونية

ورغم أن هذا المشروع (المكتبة الرقمية العالمية) لم يكن هو الأول في سياقه إلا أنه كان الأكثر ديناميكية، والأشد دراية بحاجات العالم المعرفية وقت ظهوره، فهو ورغم كونه يستخدم المكتبات الأساسية في أكثر جامعات العالم تطوراً كمادة له، إلا أن المستفيدين منه لن يكونوا من زوار المكتبات، فعالم هؤلاء يقوم على تقاليد راسخة في عالم القراءة، فالقارئ لن يلغي فكرة الذهاب إلى المكتبة للقراءة كطقس وتقليد لمجرد وجود نسخة إلكترونية من الكتاب على الحاسب الشخصي، إذ أن عملية القراءة والبحث في هذا العالم تستند وبشكل رئيس على عملية اجتماعية وعلمية تقتضي من الباحث أن يتوافر على عناصر بحثه في أمكنتها ذاتها، ومن هذه الزاوية أمكن لنا أن نفهم كيف أن أعداد الذاهبين إلى المكتبات في الولايات المتحدة تزداد يوماً بعد يوم، رغم توفر العناصر المعرفية والثقافية العامة على شبكة الإنترنت.

إن المستفيد الأساسي من مشروع مكتبة غوغل هو تلك البلدان التي تعاني من سوء البناء السياسي والمجتمعي والمعرفي أيضاً، فالعرب على سبيل المثال والذين تغيب عن تفكير مؤسساتهم هذه المشاريع الاستراتيجية لن تكون كتبهم ووثائقهم مبعثرة فيما لو دخلت فكرة المشروع في سياق تطور مجتمعاتهم، وسيصبح بإمكان أي باحث الحصول على طلباته من جرعات المعرفة المتاحة للجميع، وبالتواتر مع فكرة الديمقراطية المعرفية، نستطيع أن نتخيل البناء الكبير لمكتبة غوغل الرقمية التي لن يستطيع الهمج حرقها.

باريس تعترض على الكتاب الرقمي

منذ ظهور الكتاب الإلكتروني وكذلك مشاريع المكتبات الإلكترونية والانتقادات مستمرة لها، إذ لا يمكن لمشاريع من هذا النمط التغييري أن تمر ببساطة، فالاعتراضات على خطة غوغل انفجرت في وقتها من جهات متعددة ترسمها قوس ممتدة من نقطة منخفضة تتعلق بحقوق النشر وحقوق الملكية الفكرية، إلى نقطة في منتصف القوس يطرح فيها التضاد بين فكرة الوصول إلى المعرفة عبر وسائل تقليدية قوامها المكتبات الورقية ذات الإرث والتقاليد الممتدة والضاربة في الزمان، وصولا إلى نقطة القوس الثالثة والتي تبدو أشد انخفاضاً من الأولى بسبب كونها تمثل المعوقات التي تعاني منها قضية البحث والمعرفة في العالم الثالث.

هذه القوس من الاعتراضات وعبر التمعن في نقاط ارتكازها الثلاث تجعل من مشروع غوغل العملاق أشبه بجزيرة صناعية متحركة تقودها محركات عملاقة في محيط يمتلئ بالكثير من المعوقات، فمسألة حقوق النشر والتي تستند لقانون أميركي صدر في العام 1923 والذي يجعل من كافة الكتب الصادرة بعد هذا التاريخ محمية عبر حقوق النشر، تضع العقبات القانونية أمام مسألة التداول عبر الشبكة.

وردت التقارير المتوالية عن اعتراضات صادرة من مؤسسات ثقافية تقليدية في أوروبا، تحذر من مخاطر مشروع المكتبة الرقمية العالمية، وخاصة تلك التي صدرت عن القيمين على مكتبة باريس الوطنية، ولا سيما مديرها جان نويل جينيه الذي اتهم غوغل ومحرك بحثها بأنه أكبر الأخطار التي تهدد الثقافة الفرنسية والأوروبية.

وبغض النظر عن البعد السياسي التقليدي الذي تمثله الاعتراضات الأوروبية إلا أنها تقدم مؤشراً على إمكانية أن يقوم مشروع غوغل على أرضية قارية تنقص فيها بعض البقاع المعرفية.

أما عن نقطة الاعتراضات الثالثة، فهي في الاعتراضات التي تعبر عنها فكرة التمترس وراء التخلف، وأشد تجلياتها وضوحاً إنما تبرز في العالم العربي، الذي ظل أداؤه الرقمي في نهاية كل القوائم التي حاولت أن ترسم مشهداً واضحاً لحجم النشاط العالمي عبر شبكة الإنترنت، فالضعف في الأداء المؤسساتي يقابله سوء فاقع في الإمكانيات المادية لدى عدد كبير من مستخدمي الشبكة، يجعلهم يذهبون باتجاه عالم النسخ المقرصنة للبرامج والنسخ الإلكترونية من الكتب، في ظل غياب شبه كامل لدور المؤسسات الثقافية التي تحمي أصحاب الحقوق والمستهلكين في آن معاً.

مستخدمو الكومبيوتر يعرفون البرامج التي تتعامل مع الكتاب الإلكتروني مثل نسق المستندات المنقولة (PDF) والأنساق البسيطة (TXT وRTF) سهلة الإنشاء في نظام مايكروسوفت ويندوز. ونسق لغة رقم النص الفائق (HTML) ويستخدم لصنع كتب إلكترونية تعرض للتصفح والطباعة على شبكة الإنترنت

انفجار النشر الإلكتروني

الآن وبعد مرور أكثر من عقد على انطلاق مشروع مكتبة غوغل الرقمية، ومع نشوء عددٍ لا يحصى من تجارب المكتبات الإلكترونية المحلية، ومع تمدد عملية تسويق الكتب إلكترونياً حيث شهد العام 2011 زيادة مبيعات الكتب الإلكترونية عن المطبوعة عبر مكتبة أمازون Amazon الشهيرة. فإن السؤال الذي يطرحه المؤلفون وكذلك الناشرون يتمحور حول مستقبل عملية النشر.

هل سيختفي الكتاب الورقي حقاً لصالح الإلكتروني أم أنهما سيبقيان في مسارين متوازيين؟ الإجابة على هذا السؤال لا تبنى على عرض الميزات الخاصة بكل الشكلين من النشر، بل على تخير المستخدمين/القراء ما يناسب حاجياتهم، في عالم بات يغير من طقوس وعادات البشر بشكلٍ سريعٍ، لا يمكن مقاومته.

غير أن خيارات المؤلفين قد تبدو حاسمة في هذا المنحى فحسب الكاتبة أليسون فلود في مقال لها على صحيفة الغارديان البريطانية عن “أول كتاب إلكتروني”، فإن رواية Host للكاتب البريطاني بيتر جيمس كانت أول كتاب يتم نشره إلكترونياً دون نسخة ورقية، حيث قام بنشرها ضمن جزأين على قرصين مرنين (Floppy Disk).

اتُهم البعض هذه الرواية بأنها ستكون وبالاً على الأدب، وأنها ستقوم بتدميره. وفي هذا السياق قال مؤلفها بيتر جيمس “بعد نشري لرواية (Host) على الأقراص المرنة تعرضت لهجوم عنيف، فقد تصدرت روايتي عناوين الصفحات الأولى للصحف، وقد كانت 99 بالمئة من هذه الصحف سلبية في تعاطيها مع الحدث”. وبعد عامين على صدور النسخة الرقمية من الرواية، قال (جيمس) في جلسة حول مستقبل الرواية، في جامعة كاليفورنيا بحضور ستيف جوبس “سبق وأن قلت إن الكتب الإلكترونية ستصبح متداولة حين تكون ملائمة للقراءة بشكل أكبر من الروايات المطبوعة، وقد أثار الغضب الذي حصدته الرواية آنذاك دهشتي الكبيرة”.

غير أن ما حصل مع جيمس يمكن اعتباره بات جزءاً من الماضي، فبعد واحد وعشرين عاماً تم تصنيف هذه الرواية ضمن محتويات “متحف العلوم في بريطانيا” كمثال على أول الأعمال الأدبية الإلكترونية. وبالتأكيد فإن مكان هذه التفاصيل سيكون هو متاحف الذاكرة، بعد أن باتت كل تفاصيل حياتنا توثق إلكترونياً، بدءاً من هويتنا الشخصية وصولاً إلى شبكات التواصل الاجتماعي التي نوثق فيها خصوصياتنا بشكل تطوعي. فكيف بذاكرتنا الأبدية التي حفظها الحجر والورق لآلاف السنين.

15