رسالة تحفظ
لا أريد أن أفلسفَ الأشياء.. ولا أن أطلقَ التسميات بحثاً عمّا يشخصُ بيننا.. لا أُريد.. أنا فقط أريد أن نكون معاً.. لا لشيء.. لا لأنني صرت أحبك حدّ الجنون ولن أقوى على العيش دونك.. ولا لأنك منقذي من هلاكي المحتوم.. ليس الأمر على هذه الجسامة ولا على تلك الصيغة التراجيدية.
أريد فقط أن أجلس معك بهدوء وبلا تلفـّت.. أن نشربَ قهوة صباحنا معاً.. أن ندخّن تفاصيل يومنا.. أحدثك عن آخر ما قرأتُ وتحدثني عن آخر منجزاتك.. نضحك.. نتهامس.. نتشاكس.. لا يهم.. المهم أن نكون معاً.. هادئـَينِ طبيعيَين.. بلا أحاسيس ملتبسة بالتواطؤ أو السرقة أو التآمر.
فلماذا إذاً تطاردنا الأشباح؟.. لماذا ثمة دائماً ثالثٌ هلاميّ يتلصّص؟.. هل نحن بحاجة إلى قارة من مفاهيمَ جديدة كي نكون معاً؟.. لماذا تتربص بنا حتى حواسنا.. فلا تلبث أن تقتنص لحظة انفرادٍ حتى تكشّر عن أنياب خبيثة تنبشها في ضعفنا البشري ورهافة مشاعرنا؟
أنا لا أريد سوى أن نكون معاً.. هكذا فقط.. بلا تردّد.. بلا انفعال.. بلا مبرّرات أو شرح وتوضيح.. نتسكع في شوارع نكتشفها ولا تأبه لاكتشافنا.. نجلس في مقهى على رصيف لا يعرفنا ولا نعرف فيه أحدا.. نتمشى في أي حديقة عامة.. نسير وسط حشود بشرية لا ترتاب منا حينما تمدّ يدك لترفع عن جبيني خصلة تمرّدت مثلي على رتابة أخواتها.. (وأن تفعل ذلك دون أن تربكني ودون أن ترتبك).
فهل كتب علينا التورط في المستحيل خشية التورط في الطبيعة؟.. هل لابد لنا أن نكون سوى أنفسنا.. فقط كي نحس قليلاً.. وبعد إذنِ كل شيء؟
لا أخفيك أنني أرتعبُ من كلمة حب قد نتحامقُ ونصرّح بها لبعضنا فنصدّقها دون قصد.. فلا تقلها أستحلفك.. ولن أقولها.. أعدك.. لا أريد لهذا النسق الجهنمي من الانشداه أن يصل بنا إلى مآل.. “نحب؟”.. ثم ماذا؟.. طبعاً نفترق!.. الرواية مكررة.. ربما لأننا لن نقوى على التحليق في سماء أعلى.. ربما لأنك لن تحتمل جنوني أكثر.. أو تكف عن حبي أو أكف عن تصديقي وانتمائي إليك.. لا.. لن نقولها بالتأكيد.. فثمة إشارة حمراء اسمها “اُحبك”- بالفتحةِ والكسرة- سنقف عندها صاغرَين.. ولن نحتاج الكثير من العناء ليَعِـدَ أحدنا الآخر أننا لن نتلفظ بها ولو على سبيل المزاح.. والأمر سهل جداً.
ولكن.. عفوك.. ماذا عن قلمي؟.. كيف لي أن أضمن أنه لن يتسلل خلسة من نومي الواثق ويخونني مع الورقة؟ أو يخونك معي ربما؟!.. أفلا يقول الآن كل ما يدّل عليك؟.. وماذا بعد؟.. ألم يتبقّ غير تلك الكلمة اليتيمة المرتجفة؟.. عصفورة البوح النزقة التي غضبت منها جنـّية التحفـّظ فمسختـْها دخاناً حبستـْهُ في مكحلةٍ أصغر من عقلة الإصبع وأخفتها في أعمق سرداب من سراديب روحي؟!
من لي أن أضمن ألا يثملَ قلمي ذات ليلة شِـعرٍ هوجاء ويهيمُ في شوارع روحي بحثاً عن مكحلة قديمة فيجدها ويفركها ويطلع منها دخان يعطر ببخوره كل اختناقاتي؟.. فتتناثر الحروف ليجلسها حرفاً حرفاً فوق حرير ورقتي الناصعة:.. “أ.. ح.. ب.. ك”..؟
ياإلهي!.. ماذا يجري؟.. هل ثمل قلمي فعلاً؟.. هل قلتُ أحبكَ قبل أن أكمل رسالة تحفظي إليك؟..