حقوق الأقليات لا وجود لها في أدبيات الإسلام السياسي

الجمعة 2015/05/29
ممارسات داعش ضد الأقليات في العراق وسوريا دليل على المنحى الطائفي لهذا التنظيم

التعامل بدونية مع الآخر المختلف في الدين والطائفة والمذهب يؤسس لصراع طائفي تبرز أجلى وجوهه في تعامل تنظيم الدولة الإسلامية مع المسيحيين والإيزيديين وغيرهم بما يمثلونه من مكونات مجتمعية في العراق وسوريا وليبيا، وهذا ما يؤدي إلى القول بأن حركات الإسلام السياسي غير قادرة على ضمان حقوق الطوائف المختلفة في مشروعها لإقامة الدولة الإسلامية.

لم يخف كل المروّجين للعلمانية وفكرها خشيتهم من امتهان حقوق الأقليات الدينية في البلدان التي تحكم من قبل الإسلاميين، حيث يكرر أولئك تخوفهم مما يسمّى بـ”تطبيق الشريعة” التي يحرص الإسلام السياسي عليه، حيث أنه من خلال هذا التطبيق تقحم الدولة ومؤسساتها في انقسامات المجتمع العمودية والأفقية، ومن ثمة تتشظى بنية الدولة إلى أن تستقر ومن خلال تطبيق ما يسمّى بالعرف السياسي الإسلامي في الشريعة، تستقر الدولة على بنية متغيرة الملامح تؤمن بالاستبدادية والاحتكارية والاستئثار بالسلطة ومواردها دون تعددية ديمقراطية.

ويذهب جورج طرابيشي إلى أن الطائفية “ثابت دائم” في التاريخ الإسلامي من خلال الانقسام الشيعي السني على مدى الأحداث التاريخية والحروب والمماحكات، وبذلك فإن قيام دولة يحكمها إسلاميون يجب أن يستند إلى طائفة ما، وأنها حتما وفق استنتاج طرابيشي ستمحق الطائفة الأخرى ومن يدعمها ومن يقف معها.

ولذلك فإن هذا الاستخلاص يقودنا إلى استنتاج آخر وهو كيف ستتعامل الفئة الحاكمة من الإسلاميين في حال تأسيس دولة إسلامية يقودها إسلام سياسي، وكيف ستتعامل مع بقية الأقليات التي لا تدين بدين هذه الفئة الحاكمة، حيث أن الطوائف ربما تلتقي في قواسم مشتركة فيما بينها من قبيل الكتاب الموحّد وهو القرآن وإن اُختلف في تفسيره وتأويله، كما يشتركون في نبي واحد وقبلة واحدة، فكيف إزاء أناس لا يلتقون معهم لا فكرا ولا إيمانا ولا عقيدة؟

التعامل بالشك سيكون طبقا لما نص عليه التاريخ الإسلامي وهو في جلّه غير منصف للمسيحيين واليهود والصابئة وغيرهم من الأديان والطوائف على اختلاف عقائدها ومشاربها، وهو ذات الأمر الذي لم تنجح فيه كل التجارب الإسلامية السابقة وما يجري اليوم والعهد القريب من تطبيق مجحف في ظل المناطق التي يسيطر عليها إسلاميون حاكمون وفقا “للشريعة” في العراق وسوريا وليبيا وأسوّق هذه الأمكنة لأنها أمثلة حيّة ما زالت آثارها باقية واستطاعت وسائل التكنولوجيا تدوينها وتوثيقها وبشكل متواصل ومتسارع.

المثير للعجب أن القواسم التي تم الحديث عنها والتي تجمع المسلمين مع بعضهم البعض، بغض النظر عن طوائفهم، لم تعط أيّ منقبة للطائفة غير الحاكمة لتمييزها عن غيرها بل إن التجارب أثبتت أنّ ما يقوم به تنظيم داعش مثلا هو تكفير الشيعة بشكل مطلق والتعامل مع بقية الطوائف وفق أحكام الشريعة من دفع الجزية وفرض للنقاب ومنعهم من ممارسة طقوسهم الدينية، أما الشيعة فهم كفار وفق الشريعة ويجب ذبحهم، الأمر الذي يؤجج الصراع الطائفي وتضيع من خلال شيوعه مفاهيم ما اصطلح عليه في الإسلام “الأخوة في الإنسانية” وما اصطلح عليه في الفكر السياسي الحديث “السلم الأهلي أو السلم المجتمعي”.

دعاة العلمانية تحركوا بناء على مقتضيات تجارب التفريط بحقوق الأقليات في ظل الأنظمة الإسلاموية، وهو جل ما دفعهم للترويج إلى علمنة الأحكام والدعوة إلى تهذيب الشريعة

وعلى الرغم من أن حكم الأغلبية في العالم هو أساس التكوين الديمقراطي، إلا أن طبيعة تطبيقه بحماية من هم دون الأغلبية وإشراكهم في القرار السياسي والمنهج المجتمعي، هو الميزان الحقيقي لعدالة الديمقراطية.

وهذه الإشكالية التي تعاني منها بعض التجارب الديمقراطية في العالم والتي تبتعد أحيانا عن الإسلام السياسي نجد أنها (الإشكالية) متجذرة ومركبة ومعقدة النظرية والتطبيق في الإسلام سواء في الدين أو الحكم، وسواء في المعاملات أو العيادات في التطبيق التشريعي للأحكام.

وإذا استطعنا عبر نظرة بسيطة إلى كل رسائل العلماء الشيعة على سبيل المثال، وأقصد الرجال القادرين على استنباط الحكم الشرعي والذين يسمّون بالفقه الشيعي “المراجع″ ولهم أتباع مقلدون (بكسر اللام)، فإنهم يشتركون في فتوى واحدة مفادها أن غير المسلم نجس ما لم يكن جافا، وهذا يتأتى وفق قاعدة فقهية يحتكم إليها وهي “جاف في جاف، طاهر بلا خلاف”.

والسؤال هنا كيف يقوم مجتمع ينجّس فيه مواطن الآخر ولا يأكل فيه مواطن مع الآخر؟ أليس هذا قدحا لأبسط معاني الإنسانية الكونية المبنية على التعامل وفق المبادئ الإنسانية دون الرجوع إلى الشؤون الخاصة؟

وفي تجارب من الطرف الآخر نجد أن الكتابي عليه حكم التبعية للوليّ أو القائم بحكم الله حسب تعبيرهم وهو الخليفة أو الأمير وما إلى ذلك من ألقاب وأسماء وكنايات، ونساؤهم من الممكن أن يكنّ سبايا للولي الذي يبيعهن كالعبيد، الأمر الذي لم يخجل منه مقاتلو داعش حينما فتحوا سوق السبايا في الموصل وباعوا نساء مسيحيات وإيزيديات وصابئيات ولم يكن لهنّ الحق في الدفاع عن أنفسهن.

وحينما تعود إلى التاريخ الإسلامي تصطدم بأسواق النخاسة والعبيد وأسواق السبايا والتي راجت أثناء عصر الفتوحات الإسلامية، حيث كان المقاتلون المسلمون يأتون بالرجال كعبيد والنساء كإماء، وحينما حدد الإسلام الزواج بجمع أربع زوجات شرّع المشرعون لولاتهم ولأنفسهم الزواج غير المحدود من الجواري والإماء.

إلى هذه النقطة يمكن أن نستنتج أن الطائفية والتي وصفها جورج طرابيشي بـ”الثابت” في التاريخ الإسلامي تتجسد في حكم الطائفة الغالبة التي تُمارس شتى أنواع التهميش والإقصاء باتجاه الآخر من غير الأغلبية ما يؤدي إلى بناء حواجز نفسية واجتماعية بين مختلف المشارب تحت ظل الوطن الواحد، الأمر الذي يقدح في مفهوم المواطنة ويجعلها وفق درجات متفاوتة حسب الانتماء الديني والطائفي والمذهبي.

الإسلام السياسي ليس قادرا على حماية الأقليات من غير المسلمين في دولة إسلامية مفترضة

ومن جانب آخر فإن الطائفية العكسية والتي يسعى إليها الآخرون من غير الغالبية أو ما يسمّى عند برهان غليون بـ”الطائفية المغلوبة” قد تشكل تهديدا آخر لمجمل القيم والتعهدات الفطرية الإنسانية من أجل تأسيس مجتمعات مدنية تعتبر الدين أُسّا أخلاقيا لا نظاما حاكما، حيث يسعى المغلوبون إلى الانكفاء والانعزال والتفكير في تجاوز المظلومية بالبحث عن أمكنة أخرى تشاركهم قواسم مجتمعية ودينية ويسعون أيضا إلى بدائل خارج البلدان التي يعانون فيها من الظلم والإقصاء على اعتبار أن البيئة الإسلامية هي بيئة طاردة وغير حاضنة لمكونات المجتمع من غير المسلمين، وهذا ما بدا جليا من خلال استقراء أعداد اليهود عند بدايات القرن الماضي في العراق ومصر وبلدان أخرى ومقارنتها بأعداد هذه الأيام، أو تناقص أعداد المسيحيين في الأماكن التي يسيطر عليها حكم الإسلام السياسي.

نستنتج ممّا سلف أن الإسلام السياسي ليس قادرا على حماية الأقليات من غير المسلمين في دولة إسلامية مفترضة، خصوصا أن أرض التشريع يتجذر فيها زرع مثير من التاريخ المليء بانتهاكات صارخة في حق من هم من غير المسلمين.

كما أن دعاة العلمانية تحركوا بناء على مقتضيات تجارب التفريط بحقوق الأقليات في ظل الأنظمة الإسلاموية، وهو جل ما دفعهم للترويج إلى علمنة الأحكام والدعوة إلى تهذيب الشريعة.

13