الكاميرا العلبة السحرية ذات العين الواحدة

الأحد 2015/04/05
الكاميرا هي الأداة التي استطاع البشر من خلالها مقارعة الزمن

يقترب المصور التركي بكاميراته الفوتوغرافية ذات العدسة الطويلة من الطفلة السورية هداية، في أحد مخيمات اللجوء على الحدود السورية التركية، فترفع الطفلة يديها إلى الأعلى معلنة استسلامها أمامه، يقتنص المصور اللحظة، ويضغط على زر التقاط الصورة لتسجل الموقف، وبدلاً من أن تموت هداية بما اعتقدت أنه سلاح يشبه سلاح جنود نظام الأسد الذين رفعوا الأسلحة على عائلتها وسكان قريتها، وأجبروهم على رفع الايدي، فاجأتها ابتسامة المصوّر، الذي عرف أنه سجّل صورةً ذات قيمة عالية.

خيال الصورة

في المسار الطبيعي لا يمكن لمن يقارن بين أشكال كافة أنواع الأسلحة الفردية التقليدية، وبين أنواع الكاميرات الفوتوغرافية والسينمائية والتلفزيونية وحتى كاميرات الجوال، أن يعثر على نقاط تشابه تجعل طفلاً يشعر بأن الكاميرا تشبه السلاح، ولكنها الحالة السورية، هي ما دفع هداية لأن تشعر بأن ما يحمله المصور التركي هو أشبه بالسلاح.

ما انتهت إليه صورة الكاميرا في مخيلة طفلٍ، يبدو مصيراً قاسياً لاختراع إنساني قلب وجه التاريخ، اجتهد في تطويره مئات وآلاف من البشر، منذ أن سجل العالم العربي ابن الهيثم ملاحظاته على حركية الصورة المنقولة عبر الضوء في علبة سوداء (كانت هي زنزانته) من خلال ثقب يدخله من الخارج، مروراً بالعلماء الأوروبيين الذين تابعوا تسجيل الملاحظات وإقامة التجارب.

الصورة التي كانت تصل إلى جدران الزنزانة مقلوبة بفعل قوانين الضوء، سرعان ما عادت إلى طبيعتها، أي أنها باتت نسخاً كاملاً لما هو في الواقع، ورغم أن التجارب الأولى للكاميرات الرائدة التي ظهرت صورها في مراحل متعددة في القرن التاسع عشر كانت غير واضحة وتعاني من مشاكل بدائية التقنية، إلا أن هذا القرن لم يصل إلى منتصفه إلا وكانت الكاميرا الفوتوغرافية قد باتت حاضرة في حياة البشر. ليس بوصفها حياة يكتفى منها بتثبيت الصورة الشخصية (البورتريه) أو صور الطبيعة، بل بوصفها حياة يتعادل فيها الفعل الإكراهي مع الفعل الطبيعي، وهكذا بات أهم أفعال الاختراع الجديد هو حضوره في السياق الصحفي الإخباري ولاسيما في واقعات الحروب، ففي عام 1847 التقط مصور مجهول الهوية صورًا شمسية على ألواح فضية للقوات الأميركية في سالتيو بالمكسيك أثناء الحرب المكسيكية الأميركية. وكذلك قام المصور الصحفي الرائد كارول سازماري، وهو متخصص روماني في الرسم والطباعة على الحجر والتصوير الفوتوغرافي بالتقاط صورٍ لحرب القرم، بين روسيا والإمبراطورية العثمانية. وكذلك سيقوم الأميركي ماثيو برادي بالتقاط صور الحرب الأهلية الأميركية.

مع ظهور آلة التصوير السينمائية، بدأ وجه التاريخ البشري يتغير، فمع كل إضافة من الإضافات التي كان يلحقها العلم بآلة التصوير، كان مجال تثبيت أو تسجيل الحياة البشرية يتسع، فالفيلم السينمائي، وثائقيا كان أو روائياً، إنما هو مساحة لقدرة الإنسان على السيطرة على الزمن

المنجز الذي صنعته الكاميرا الفوتوغرافية لم يكن مرضياً فالصورة الثابتة كانت خطوة أولى للوصول إلى أداة تمكن المصور من تسجيل الحياة بوصفها حركة في الزمن، ولهذا حاول المصور إدوارد مايبردج بين عامي 1870 و1873 مقاربة الأمر عملياً عبر دمج مجموعة من الصور الثابتة لحصان يتحرك من خلال استخدام عدة كاميرات. وقد حرّضت هذه التجربة الكثيرين لأن يقوموا بتجاربهم ومن هؤلاء المصور الفرنسي إيتيان جول ماري الذي قدم في ثمانينات القرن التاسع عشر ما يسمى بـ “الدفع الفوتوغرافي” أو ما أطلق هو عليه “البندقية الكرونوفوتوغرافيك” بناء على أن شكلها يشبه البندقية، وقد صنع ماري بندقيته على أساس نظرية المسدس، وبدلاً من وضع الرصاص فيها فقد وضع ألواحاً فوتوغرافية وذلك لتسجيل الصور عندما ينطلق الزناد”.

الكاميرا والحركة والسينما

وقد تتالت التجارب من قبل المخترعين إلى أن قدّم الأخوان أوجست ولويس لوميير اختراعهما آلة “سينماتوغراف” في فرنسا، وكذلك المخترع الأميركي الشهير توماس أديسون مع مساعده الملقب بأبي الأفلام لوري ديكسون الذي طور آلة التصوير التي اخترعها “الكينوتوغراف أو الكنتوسكوب” إلى آلةٍ ذات عرض متتابع أطلق عليها اسم “فيتاسكوب” حيث عرض كل من المخترعين الفرنسيين والأميركيين نتائج تجاربهما في عام 1895.

هكذا ومع ظهور آلة التصوير السينمائية، بدأ وجه التاريخ البشري يتغير، فمع كل إضافة من الإضافات التي كان يلحقها العلم بآلة التصوير، كان مجال تثبيت أو تسجيل الحياة البشرية يتسع، وكانت القدرة على محاكاة هذه الحياة إبداعياً تتعاظم، فالفيلم السينمائي، وثائقياً كان أو روائياً، إنما هو مساحة لقدرة الإنسان على السيطرة على الزمن، الوثائقي في محاولة تسجيله والإمساك بلحظاته، والروائي في القدرة على إنتاج الحكاية وفق تصورات تحاول مجاراة القدر والتغلب عليه، من أجل صناعة مصائر مختلفة للبشر.

رغم أن التجارب الأولى للكاميرات الرائدة التي ظهرت صورها في مراحل متعددة في القرن التاسع عشر كانت غير واضحة وتعاني من مشاكل بدائية التقنية، إلا أن هذا القرن لم يصل إلى منتصفه إلا وكانت الكاميرا الفوتوغرافية قد باتت حاضرة في حياة البشر

الكاميرا بشكليها، الفوتوغرافية والسينمائية، كانت هي الأداة التي استطاع البشر من خلالها مقارعة الزمن، فما كان يغيّب الزمن صورته من خلال الموت، بات حاضراً من خلال الصورة، وفي السياق ذاته، بات التاريخ الذي يكتبه المنتصرون مجرد فرضيات تحتاج لأن تصادق عليها الكاميرات، وهكذا مضت الكاميرا، مع تطور معطياتها التقنية الواسعة، تتغول في السيطرة على حياة الناس، فبعد اختراع التلفزيون جاءت الكاميرا التلفزيونية الثابتة ولحقتها الكاميرا التلفزيونية المحمولة، ولتتسع العائلة يومياً بعد يوم عبر تقدم التجارب العلمية التي كانت تذهب نحو تعميم الشركات المصنعة لأنواع جديدة من الكاميرات التي بات بإمكان أي إنسان أن يقتنيها، وبدلاً من أن يكون البشر خاضعين لسلطة واحدة تقوم بالتصوير أو ما يمكن تسميته بالتدوين في الزمن، بات من حق أي إنسان أن يقوم بالتدوين بشكل إفرادي، فقد خلقت أجيال جديدة من الكاميرات (فوتوغراف وفيديو) تتميز بقدرات تقنية عالية وبأسعار مخفضة. ما يعني توفير مساحة القول وإمكانية صناعة الخطاب البصري، لكل من استطاع إلى ذلك سبيلاً، وعليه بات من المفهوم تماماً أن يتكاثف النتاج الفيلمي للهواة وللمحترفين على حدٍ سواء في نهايات الألفية الثانية.

غير أن الإضافة الأبرز التي حملتها الألفية الجديدة على صعيد تعميم وجود الكاميرا، جاءت من خلال إضافتها إلى أجهزة الهاتف المحمول، ما أدى إلى تغيير جزء مهم في العقل البشري، فمع وجود إمكانية التسجيل البصري بين أيدي الجميع، ومع انضمام الجميع إلى مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، أصبح تفكير الناس صُوَرِيًّا بشكلٍ كامل. إذ لا يمكن لنا في أيامنا الحالية أن نمارس أيّ فعالية اجتماعية دون أن نقوم بربطها بالصورة، كما أن وجود الكاميرات في كل مكان جعلنا نقوم بترتيب حياتنا بناء على وجود صورتنا متاحة لدى الجميع، وعليه فإن رغبتنا بإخفاء أفعالنا الشخصية، التي لا يجب أن تكون معروضة للمشاهدة، قد رفع من مستوى الحذر لدينا، ما سيؤدي في المحصلة إلى تغيير في ميكانيزم الحياة عاجلاً أم آجلاً.

الإضافة الأبرز التي حملتها الألفية الجديدة، تأتي من خلال زرع الكاميرا في أجهزة الهاتف المحمول، ما أدى إلى تغيير جزء مهم في العقل البشري، ومع وجود إمكانية التسجيل البصري بين أيدي الجميع، أصبح تفكير الناس صوريا بشكل كامل

الإنسان وكاميرا الهاتف

تأرجح الفتنة بالتصوير، بين تسجيل السعادة البشرية، والطبيعة والإنجازات الإنسانية، وبين تسجيل الأسى والألم الذي كانت تصنعه الحروب، يعيد فكرة التصوير والكاميرا إلى طبيعة وروح عمل الرسامين الذين عملوا طيلة قرون على رسم التفاصيل البشرية، غير أن ما فعلته الكاميرا من تخليص الصورة من أيّ إضافة يقوم بها الرسام، جعله حياديةً في البداية، فهي تقوم بنقل الواقع كما هو ولا تضيف عليه ولا تحمّله أيّ معنى من المعاني سوى أنه لحظة تم قنصها من السياق الزمني الذي يخوض فيه البشر، ولكن هل بقي الأمر هكذا حقاً؟ بالتأكيد لا، فالتقاط الصورة في إمكانية محددة، وبوضعية محددة وبانتقائية محددة، ونشر الصور وعدم نشرها والاشتغال على سياق النشر، كلها عوامل ساهمت في إنهاء حيادية الصورة، بعد أن بات مستخدمو الكاميرا مدركين لأهمية ما تفعله، ومستفيدين من فلسفتها الخاصة، وقد كان من اللافت أن خلق الكاميرا واستخدامها ضمن سياق الصحافة المصورة قد استدعى حمولة أخلاقية كان من الواجب على البشر أن يتفقوا حيالها، وهكذا يصبح من الضرورة أن يفكر المصورون بما يجب تصويره وكيفية تأطيره وكيفية تحريره، حيث يتحمل المصورون الصحفيون مسؤولية أخلاقية لاتخاذ القرار بشأن أيّ الصور ينبغي تصويرها، وأيها ينبغي تعديلها، وأيها ينبغي عرضها على الجماهير. كما أن التحول الذي فرضته التطورات التقنية في نهايات القرن العشرين، ولا سيما في مجال التصوير الرقمي، وبرامج المعالجة الصورية، قد مكّن البعض من الاشتغال على تزوير الصور، وبالتالي فإن الحمولة الأخلاقية تتسع، لتصبح أكبر من مجرد التعاطي الأولي مع منجزات اختراع الكاميرا.

فإذا كانت الكاميرا قد دفعت بالعقل البشري لأن يصل وبسرعة إلى مقاربة أخلاقية لما تقدّمه، فإن النظرة إليها كسلاح لم تكن فقط وليدة بروباغندا الأنظمة الشمولية التي رأت في كشف الصورة لفضائحها جريمة تستحق العقاب. بل كانت وليدة آلية عمل المستخدمين أيضاً، فكلما كان المصورون محترفين أو هواة، يتوغلون في خصوصيات أفراد المجتمع ويقومون بنشرها وبما يمثل اعتداء على حقوق الآخرين، كانت صورة الكاميرا تتحول من مجرد كونها اختراع الحالمين بمقارعة الزمن، إلى كونها السلاح الذي يخيف الجميع، من الطغاة إلى البشر العاديين.

10