كان يا ما كان
كان يا ما كان، كان في قديم الزمان، في سالف العصر والأوان، صديقان حميمان، أحدهما كاتب علماني ينافح عن قضايا المرأة والأقليات وحقوق الإنسان، والثاني مناضل يساري ينافح عن حقوق العمال والفلاحين وضحايا الحرمان، يتقاربان يوما، يتقاطعان يوما، ويفترقان يوما. لكن، كلاهما مهدد بالتصفية من طرف حاكم جاثم على أنفاس الناس، يأخذ بالظنة ويقطع الأعناق على الشبهة ويؤدب الغائب بضرب رقبة الشاهد. في أحد الأيام فكرا ودبرا وقررا أن يفجرا الثورة. لكن كيف؟
اقترح المناضل اليساري أن تبدأ الشرارة من الجامع الأكبر، ففيه يلتقي الجمع الغفير من الجماهير، وأضاف شارحا مستدركا، ولا يريبنّك أن نستعين ببعض الحماسة الدينية لبعض الوقت، وقد نتحمل بعض المتطرفين لحين؛ فإن الغاية تبرر الوسيلة، وحين تنتصر الثورة سيزول الظلم والفقر وتزول أسباب التطرف، بل تزول أسباب التديّن نفسها. والمهم أن تتغير البنية التحتية أولا.
في يوم الجمعة الجامعة التقيا في المسجد وصلّيا مع المصلين. وعند عتبة الخروج وقفا يرددان شعارات الحرية والكرامة الإنسانية. تحلّق حولهم بعض الخلق، وخاطبهم اليساري بقوله: إن الله لا يرضى لعباده المذلة والهوان فقد خلقنا أحرارا، ولنحفظ هذه النعمة.
وبينما هو آخذ في الكلام تقدم أحد الملتحين وطلب الإذن للكلام، فألقى التحية على أهل المبادرة وشكر من أشعلوا الشرارة، ثم قال: سنواصل جهادنا المبارك ضدّ الطواغيت الذين يُعبدون من دون الله، عسانا نبرئ ذمتنا من الشرك الذي نحن فيه واقعون. إن عشنا فبما يرضي الله، وإن متنا فهي الشهادة في الدنيا والنعيم في الآخرة، وما الدنيا سوى دار ابتلاء، سنمضي ومعنا فضلاء العلمانيين واليساريين الذين سخرهم الله لنصرة المسـلمين مثـلما سخر لهم النجاشي قديما.
ثم بدأ يصيح في الناس، تكبير، والقوم يقولون، الله أكبر، الله أكبر. ومشى هذه المرّة في مقدمة المسيرة، خلفه المثقف العلماني حائر واليساري يحاول أن يقنع نفسه بأنّ قوانين التاريخ معقدة وقد تكون مظاهر التديّن مؤقتة تزول بزوال أسبابها في الظلم الاجتماعي والاقتصادي ونحو ذلك من تنظيرات يسار البؤس.
سارت المسيرة مسافة إضافية، لكنّها سرعان ما توقفت عند حاجز من الدبابات والمدافع الثقيلة والصواريخ العابرة للقارات والمصوبة نحو صدور المحتجين السلميين. وهنا استوقف الملتحي الناس فقال لهم: ومما لا يخفى عليكم بأن الله أوصانا بالشورى، وقد قال لرسوله الكريم، شاورهم في الأمر. وعملا بسنة الله ورسوله فقد جعلت الأمر شورى بينكم، إن شئتم نزحف إلى قدر الله حتى نلقى ربّنا، وإن شئتم نتولى لنفر من قدر الله إلى قضاء الله!
ولما بدا عليه الارتباك، قام ملتح آخر باللباس الأفغاني هذه المرة وطلب الكلمة ثم قال: الحمد لله وحده، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إن ينصركم الله فلا غالب لكم، إخواني في الله، تحسبا لهذا الظرف العصيب أعددت نفسي للشهادة وأنا الآن أرتدي حزاما ناسفا، سأتقدم لأفجر نفسي في الأعداء حتى أشلّ عزمهم وأشتت شملهم. وبينكم إخوان لي مجهزون بالعدة والعتاد، وبالعدد والعماد، سيتولون حمايتكم من أعداء الله، فأنتم إخواننا في الملة والدين، لكم ما لنا وعليكم ما علينا. والآن اسمعوني جيدا: هذا أبو سراقة جاء من أرض قوقازستان لأجل نصرتكم، وهذا أبو جهالة جاءكم من أرض حبشستان ليعلمكم دينكم، وهذا أبو ظلامة جاءكم من أرض الزيزفون ليحكمكم بعد زوال طاغوتكم بحول الله. تكبير.. الله أكبر.. الله أكبر.