عصام كرباج فنان رسم وجع السوريين على جدران أوروبا

السبت 2015/03/21
كرباج المهاجر الذي عرفه الغرب ولم تعرفه بلاده

بالخشب المتفحم، كان يرسم على الحجارة المرصوفة في باحة دارهم، طفل لم يتجاوز السابعة من عمره، رسم بمهارة الفنانين الكبار، ممسكا بثوب والدته، المرأة الجنوبية المتميزة بطبعها وقوة إرادتها، مشى خلفها إلى المدرسة، في يومه الأول لم يبك ولم يتلعثم، كانت كلمات أمه تدوي في رأسه الصغير.

عصام كرباج الفنان السوري الذي عرفه الغرب وقدره وأعطاه حقه، في حين فر من بلاده شبه هارب، عصام كرباج الذي ولد في السويداء 1960، ودرس الرسم في كلية الفنون الجميلة في دمشق حتى العام 1984، كان قد شارك بأكثر من معرض جماعي في المركز الثقافي الروسي، إلا أن أجواء البلاد الخانقة في تلك الفترة، والسقف المعد مسبقا لأي فكر جديد لم يتناسب مع سماء أفكاره المحلقة، غادر دمشق على عجل، قاصدا سانت بطرس بورغ أيام ما كانت تسمى لينين غراد، هناك درس هندسة العمارة واختص بالتصميم المسرحي، في العام 1989 اختار المملكة المتحدة لتكون استقراره الأخير، بعدما اختارته الجامعة اليسوعية ليكون المدرس المقيم فيها، فانتقل للعيش بإنكلترا ومنها كانت انطلاقته العالمية.

بقايا الحياة وأطياف لندن

هو الآن أستاذ الفن في الجامعة اليسوعية في لندن، وناقد فني في أكاديمية فنون كامبريدج، وأعماله مقتناة في أكثر من متحف عالمي، بما في ذلك المتحف البريطاني، وقد عرضت أعماله على نطاق واسع ودعيت للمشاركة في أكثر المجموعات الفنية العالمية نشاطا حول العالم.

على مدى السنوات الأربع الماضية، عاش كرباج الحرب السورية بكل تفاصيلها، رغم بعده بالجسد إلا أن ألم الناس ووجعهم كانا يقضان مضجعه أبدا، كان يراقب من بعيد، مشاهد الحرب المؤلمة، كان يشعر وكأن بلده تنتزع أحشاءها، شعبها، مدنها، قراها، أعماق الماضي، تاريخها، ذاكرتها وحاضرها، هذا الألم الذي سيطر على قلبه لوقت، تفجر من داخله فنا، استحضر صور الموت والدمار والتشرد، فجمع الكثير من المخلفات المهترئة، وشكلها بأشكال فنية رائعة، أراد من خلالها القول إنها بقايا الحياة التي كانت في بلاده، بقايا الضحايا، بقايا الأموات، ما تركه البشر، نتف من ذاكرة مدن وحياة شعب.

هذه الأعمال كانت في معرضه الأخير الذي افتتح في إحدى الكاتدرائيات، حضور دام أكثر من أربعة أشهر كأطول معرض في أوروبا يستمر من بداية أغسطس 2014 حتى نهاية العام المنصرم، ما جعل معظم الصحف البريطانية والغربية تتحدث عنه وتلتفت إلى معاناة الشعب السوري وما يعانيه، يقول عصام كرباج عن معرضه هذا “عملي هو لفتة هادئة وأرشيف، علّنا نتذكر من خلاله أولئك المنسيين الذين قضوا في الداخل، وهو في الوقت نفسه دعوة إلى التأمل بما قد يحمله المستقبل لما تبقى من شعبي وبلدي”.

خيال كرباج متفجر ومأساوي، يقول عن لوحته تأبين "فيما يستمر الصراع في سوريا ما زلت أبحث عن أدلة على أشخاص اختفوا، وبالتالي فإن أي قطعة صغيرة تصبح غالية، لأنها تعتبر علامة على حياتهم، على وجودهم"

وضم معرض عصام كرباج مجموعة من الرسومات على الورق والأعمال الفوتوغرافية والبصرية، افتتحها كرباج بلوحة عنوانها “دمشق وأنا”، مصممة على أنها خارطة جوية للمدينة القديمة، تم تشكيلها بتجميع أغلفة الكتب الجلدية القديمة، مشغولة أو معتقة وكأنها وقعت وتغطت بالرمل، لتبدو وكأنها جدار من جدران المدينة القديمة أو ربما جلود الناس المحنطة بالحزن، ويفسر كرباج لوحته بأنها المدينة بأكملها، هي هكذا مجموعة من طبقات التاريخ وطبقات الحياة وتاريخها، في اللوحة المقابلة نرى تقريبا نفس اللوحة الضخمة ولكنها بشكل شبه مشوه على أنها المدينة التي تشوهها الحرب وتنهش أهلها.

تتميز أعمال كرباج ولوحاته بأحجامها الضخمة وبتشظيها، فقد صنعت كمنمنمات أو تفاصيل، مستخدما قصاصات صور الأشعة السينية، وبقايا الكتب وأغلفة الهدايا وأشرطة التغليف وسجلات المبيعات من متاجر الأثاث، والكراسي المكسّرة والدراجات الهوائية القديمة.

الوجه الآخر للسماء

في لوحته “العبور” وهي لوحة جدارية ضخمة طولها سبعة أمتار وعرضها أربعة أمتار، يحاول عصام كرباج أن يصور الجانب الآخر من الحياة، السماء بمعناها الانتقالي، الأرواح التي تصعد إلى السماء، العبور إلى حياة أخرى. يقول كرباج “إن العبور هو حالة التشرد التي عاشها السوري، هي حالة الانتقال من حال إلى حال، من الحياة إلى الموت، من الاستقرار إلى الرحيل، من الوطن إلى المنفى، أما السواد فهو ليس فقط للموت، بل أيضا لموت الأشياء داخلنا، هو حزن فعلي وليس حالة فنية أو شعرية أو تعبيرية، إنه الموت الحقيقي الذي يلاحق السوري تحت براميل، وفي عرض البحر، وفي برد المنافي”.

كان كرباج جريئا في لوحة “العبور” حين استخدم جزءا من جناح طائرة محطمة، جناح صدئ تتشظى منه إلى الأسفل نتف من قطع ملونة من أغلفة كتب ومن بعض القصاصات مقلوبة من البوسترات الضخمة، بحيث تظهر كأنها بشر يتساقطون من جناح الطائرة.

ضياء العزاوي وسعاد العطار وكبار فناني العراق، كانوا شركاء لعصام كرباج في عرض المتحف البريطاني قبل سنوات، الذي أقيم ضمن احتفالية "بابل: الأسطورة والواقع"، وقد ضم أعمالا فنية مهمة من بلاد ما بين النهرين تحت عنوان "ماضي العراق يحدث الحاضر"

يصف عصام كرباج تلك التشظيات بأنها تمثل كل الأشخاص الذين يحاولون أن يعبروا الحدود أو الاتجاه الآخر للسماء، “لا يعرفون إلى أين هم راحلون، ولا يعرفون إن كانوا سيصلون أم لا ؟”. أما أهم الأعمال فهي جدارية الأبجدية التي شكلها عصام لتظهر للرائي وكأنها قطع من لحم، من أشلاء، من أجساد تفتتت، بفعل براميل الحرب بالطبع، اللوحة امتدت على امتداد جدار الكاتدرائية على مدى 17 متر وكانت عبارة عن قطع صغيرة ملونة من الورق المقــوى ومن قماش ومــن جلد مغلفــات الكتب بقصد أن تكون قطعا صغيرة من لحوم الناس ومزقــا من ثيابهم، مثبتـة إلى الحائط مثل الفراشات، توحي وكأنها عرض لحشرات غريبة بأعداد مهولة مرتبة بصفوف وبعضها معروض بشكل عشوائي وهنا ما قصده عصام وكأنه يريد القول “إنني أؤرشف لما تبقى من هشاشة الحياة”.

في لوحة مثل “حروف” يتقّصد عصام كرباج أن يكتب حروفه الكبيرة بالعربية، ويجعلها مقلوبة دلالة على انقلاب الحقائق، وانقلاب الحياة بما يحصل في الشرق، يرى كرباج أنـه استوحى لوحته هذه أو فكرتها من والدته التي لـم تكن تعـرف القراءة أو الكتــابة، فيقــول “أردت التـــواصـــل معها، أردتها أن تدخل إلى عالمي، فعلمتها القراءة والكتابة، كانت تكتب بما يشبه الرسم أكثر من الكتابة، كنت أحب جلسات التعلم معها، كنت أريدها أن تعبر عن نفسها أكثر”.

وفي لوحته “تأبين” يواصل كرباج جدارياته ليصل إلى طول 18 مترا غطاها بأغلفة الكتب الجلدية متسلقة على الجدار بشكل تراكمي تعلوها في زاويتها شريطة سوداء، تلك العلامة الشهيرة التي تكلل بها صور الموتى، بعضها رسم عليها منممنات بألوان زاهية ولكن دون إغفال الشريطة السوداء في زاويتها تعبيرا واضحا عن الموت في البلاد، خيال كرباج متفجّر ومأساوي، يقول ” فيما يستمر الصراع في سوريا ما زلت أبحث عن أدلة على اشخاص اختفوا، وبالتالي فإن اي قطعة صغيرة تصبح غالية، لأنها تعتبر علامة على حياتهم، على وجودهم”.

أعمال كرباج ولوحاته تتميز بأحجامها الضخمة وبتشظيها، ينجزها كمنمنمات أو تفاصيل مستخدما قصاصات صور الأشعة السينية، وبقايا الكتب وأغلفة الهــــدايا وأشرطة التغليف وسجلات المبيعات من متاجر الأثاث، والكراسي المكسرة والدراجات الهوائية القديمة

كرباج والمكان النائي

في العام 2008 أقام المُتحف البريطاني في لندن معرضا فنيا كبيرا بعنوان “بابل: الأسطورة والواقع”، وقد ضم أعمالا فنية مهمة من بلاد ما بين النهرين.

وعلى هامش هذا النشاط الثقافي الكبير أقام الغاليري الإسلامي في الصالة رقم 34 من المتحف ذاته معرضا فنيا موازيا تحت عنوان “ماضي العراق يُحدِّث الحاضر” لأحد عشر فنانا تشكيليا، عشرة منهم من العراق وهم على التوالي: ضياء العزاوي، فيصل لعيبي، هناء مال الله، مصطفى جعفر، ساطع هاشم، سُعاد العطار، وليد سيتي، ميسلون فرج، ناصر مؤنس، فريال الأعظمي، وكان عصام كرباج حاضرا مشاركا فيه، وكتب النقاد وقتها إن كرباج أراد أن تكــــون مشاركته ببضعة أعمــال تتميـــز بالبساطة والجرأة و“مرونة المقترب الأسلوبي الذي يذكر بتقنية السهل الممتنـع”.

لكن كرباج يتمسّك بمكانه النائي، بعيدا في مختبره العالمي، يقول عن نفسه “أنا لا أحاول أن أظهر كشاعر أو أديب، أنا فنان، رسام تشكيلي، نحات، ولست من الأشخاص المباشرين، ولا أهوى أن أطرح فكرتي بمباشرة قد تسيء لها أكثر من خدمتها، إذا لم يفهم المشاهد ما أتحدث عنه فهو أمر عادي، لأن ما أقوله معقد ولن يُفهم من أول مرة، فتشكيلاتي أخذت مني الكثير من الوقت والجهد والتفكير، والأكثر، الأكثر من الألم، في النهاية لا يستط الموسيقية المرافقة للمعرض، إنك تسمع موسيقى الموسيقار السوري مالك جندلي “صدى من أجل أوغاريت” فتضيف إلى اللوحة بعدا آخر للفرجة والفهـم والإحساس معا”.

14