شارع في المحروسة تتقاطع فيه المقاهي بالملاهي بالمسارح

القاهرة- “الفجالة” ليس مجرد اسم مكان في وسط القاهرة، بل هو شارع مخطوطة على جدرانه كتب للتاريخ وتراث حضاري يضرب في العراقة، وحمل بين ثناياه أحلاما ومنابر ثقافية، ساهمت في تشكيل نسيج وطن، وساعد على ذلك أن عاش فيه مسلمون ومسيحيون ويهود.
كان شارع الفجالة وسط القاهرة، واحة جيدة لاستقبال البشر من جنسيات مختلفة، منها السورية واللبنانية والأرمنية واليونانية والإنكليزية والفرنسية.
والفجالة اسم مصري خالص، فهذا الشارع كان في الأصل سوقا لبيع الخضراوات في الزمن الفاطمي، والاسم مشتق من بائعي الفجل (من الخضراوات).
وقد جاء في دراسة بعنوان “الفجالة منورة” في سلسلة ندوات يتم تنظيمها باسم “ثقافة مصرية” من قبل جمعية النهضة بمنطقة “الظاهر” في وسط القاهرة مؤخرا، أن هذه المنطقة مرتبطة ارتباطًا جغرافيًا بالفجالة، والتزم الاسم بصيغة “فعالة”، التي اشتهرت منذ القاهرة الفاطمية، حيث اشتقت من أسماء وحروف احتضنتها بعض المناطق المجاورة، مثل “أرض البغالة”، “أرض الفوالة”، “أرض الطبالة” أو “أرض الفجالة”.
|
الموقع الجغرافي للشارع على بُعد خطوات من حي الأزبكية، الذي كان معروفا بحدائقه ومسارحه، ومن شارعي عماد الدين وكلوت بك اللذين عرفا بالملاهي والمقاهي، إضافة إلى وجود الشارع ضمن نطاق حي الظاهر، الذي أنشأه الظاهر بيبرس كمكان متميز للنخبة الاجتماعية، بمبان فخمة، وعدد من المعابد والكنائس، تقف جنبًا إلى جنب مع الإصدارات الأدبية والسير الشعبية.
وشهدت أرض الفجالة نموا لنشاط نسخ وبيع الكتب الأدبية والسير الشعبية والأزجال المصرية، موازيا لنشاط شارع الأزهر، وهو شارع تاريخي يضم جامع الأزهر الشريف، في نسخ وبيع كتب التراث وعلوم الدين.
وإذا كانت منطقة الأزهر الشريف تخصصت في الكتب الدينية الإسلامية مع بعض الكتب الأخرى، فأرض الفجالة اشتهرت بكتب الأدب والفن والفلسفة مع كتب الديانات والطوائف غير الإسلامية. لكن بدخول المطابع مع بداية الحملة الفرنسية، ثم مع انتشارها في عهد الأسرة العلوية، تحول المكان إلى شارع حفر لنفسه تاريخا جديدا، فإلى جوار مكتبات نشر وبيع وتوزيع الكتب، ظهرت محلات بيع الأدوات الكتابية.
حسام عبدالفتاح أستاذ الآثار بجامعة عين شمس، قال لـ“العرب”، إن الشارع كمكان لبيع الكتب اشتهر وقت الاحتلال الفرنسي القصير لمصر بقيادة نابليون بونابرت عام 1798-1801، ووُجد تخطيط لهذا الشارع على خارطة الحملة في كتاب “وصف مصر”.
يذكر أن محمد علي باشا والي مصر والسودان، ومن بعده الخديوي إسماعيل، قد استكملا مشروع النهضة بكل جوانبها الحضارية.
|
وجاء جورجي زيدان الأديب والروائي والمؤرخ من أصل لبناني إلى مصر، وأظهر اهتماما كبيرا بشارع الفجالة.
وجورجي هو الذي أسس مجلة الهلال عام 1892، واختار لها مقرًا بحي الفجالة، وكان يسمى بحي الأعيان والوجهاء والغرباء، حتى يكون قريبا من المواطنين السوريين واللبنانيين.
كما أن موقع هذا الحي في مواجهة محطة القطارات الرئيسية في القاهرة، المعروفة باسم رمسيس، سهل توزيع مجلة الهلال، إلى جميع الأنحاء دون تكلفة كبيرة، وقد واكب صدور تلك المجلة وفاة الخديوي توفيق، وتولي عباس الثاني عرش مصر.
الشارع كان يسمى قديما باسم شارع كامل صدقي، ويتميز بالمباني القديمة ومعمار شبيه بالتراث الأوروبي، وبقيت أثاره على الجدران المتآكلة بفعل الزمن.
تغيرت أمزجة المصريين، وتم استبدال كل ما هو تاريخي بقوالب خراسانية صماء، لكن تبقى هناك بعض المباني شاهدة على التاريخ.
وتميزت الفجالة أيضا بالمقاهي العريقة وأشهرها “الشانزلزيه”، وأنشأه رجل يوناني في 14 يونيو 1902، ليكون ملتقى الأدباء والكتاب، وبيع الصحف والمجلات، ومنهم محمود زكي باشا، وأمين تقي الدين، وأنطون الجميل بك، فضلا عن جورجي زيدان، وقد ظل هذا المقهى حتى الآن في العقار رقم 27 بشارع الفجالة.
|
وأكد عبدالفتاح أن الفجالة تضم أشهر دور النشر القديمة، مثل مكتبة نهضة مصر، والتي أسسها سعيد جودة السحار عام 1932، وبدأت صغيرة ثم سرعان ما ازداد حجمها بإنشاء دار مصر للطباعة عام 1948، واشتهرت بنشر الكتب لمؤلفين مثل، نجيب محفوظ ويوسف السباعي، ويوسف إدريس، وعلى أحمد باكثير.
كذلك من الدور التي حافظت على أصالتها دار المعارف وأسسها نجيب متري عام1890، كمطبعة تجارية ثم تحولت إلى دار نشر، ولا تزال نهضة مصر تمارس دورها في نشر وترجمة الأعمال الأدبية، كما أن المؤسسة العربية الحديثة التي تأسست عام 1960 تمارس دورها في نشر الكتب الأدبية.
وبجوار هذه الدور توجد مكتبات إسلامية مثل “الجهاد الكبرى”، تجاورها أخرى مسيحية، مثل مكتبة “أمارنيوس”، على مقربة من مكتبة الشمرلي التي اشتهرت بطبع المصاحف الشريفة.
عزة كُريم أستاذ علم الاجتماع ورئيس المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية سابقًا، أشارت لـ“العرب” إلى علاقة المصريين بالأماكن التاريخية مثل الفجالة، وإلى أن اختفاء ملامح المكان القديم واستبدال المكتبات بمحلات السيراميك، لم يمنعا المصريين من الذهاب إلى هناك وكأنه طقس سنوي تعودوا عليه.
ويعتبر سوق الفجالة لبيع الكتب والأدوات المدرسية أحد الأسواق التجارية الرائجة، وتزدهر فيه حركة البيع والشراء مع اقتراب بداية العام الدراسي في شهر سبتمبر، وخلال شهر فبراير، أي قبل بداية النصف الثاني من العام الدراسي.
ونوهت كُريم إلى خطورة التشوهات التي لحقت بشارع الفجالة في السنوات الأخـيرة، حيث انتشرت محلات السيراميك والأدوات الصحية، وأصبحت تحتل جزءاً كبــيراً مــن الشارع، وطالبت بضرورة الاهتمـام بهـذه الأماكن التاريخية العريقة قبل أن تتآكل تمـاما.