رسالة إلى الخائفين

الاثنين 2014/12/22

الخوف منبع العبوديّة حسب هيجل، أساس أخلاق العبيد حسب نيتشه، أمّ الرذائل عند معظم الفلاسفة اليونانيين، وقد كان علي بن أبي طالب حاذقاً في نقده للإيمان القائم على الخوف والذي أطلق عليه في إحدى أبلغ عباراته اسم “عبادة العبيد” مقابل “عبادة الأحرار”. لذلك، كانت غاية المعرفة عند أبيقور تحرير النفس من الخوف، وهي الغاية نفسها التي تحكم تأسيس الدولة عند سبينوزا.

الخوف يعلم الإنسان الكذب والغش والمكر والنفاق، ومن ثم يدمر أخلاق المواطنة والسلوك المدني. كما أن الخوف يعطل العقل، يشلّ الإرادة، ويقتل الحرية، بل يقضي على إنسانية الإنسان. لذلك، طبيعيّ أن تراهن كل الأيديولوجيات المغلقة – والتي تبقى في كافة أحوالها ضدّ الطبيعة البشرية – على إشاعة الخوف بين الناس. العلّة في ذلك أنّ الإنسان الخائف إنسان لا يفكر، لا يقرر، لا يحاور، إنّه كائن لأجل السخرة والاستعباد لا غير. قد يبدو هذا الهدف مريحا لمنظومات التشدّد مناسبا لأنظمة الطغيان، لكن، للمسألة وجه آخر لا يجوز إغفاله، وهو أنّ ضرر الخوف على الأمن العام يفوق كل ضرر آخر، ولو بعد حين.

معضلة الإنسان الخائف أنه يراكم الرّعب في وجدانه حتى يصبح وجدانه في الأخير مجرّد لغم ينسف نفسه ويفجر كلّ شيء. وكما تقول الحكمة المغاربية “احذروا ضربة الخائف”. الخائف لا يضرب إلا غيلة وغدراً، لا يقاتل إلا مخاتلة وقهرا، إن تمكّن لا يرحم، وإن فرّ لا يُؤتمن، يضرب بكل الرّعب الذي يختزنه في أعماقه. الكائن المرعب هو قبل ذلك كائن مرتعب مرعوب، متوجس دوما من الآخرين، يسعى إلى إسقاط رعبه الداخلي على العالم الخارجي، عندما يتكلم لا يتكلم إلا صراخا، وعندما يتنافس لا يتنافس إلا تدافعا واحترابا، وعندما يصمت لا يصمت إلا تقية واتقاء.

والسؤال، ألم يمنحه الدين أدنى شعور بالأمن الرّوحي؟ أليست وظيفة الدين أن يستعيد الإنسان سكينته؟ نعم، بكل تأكيد، لكن، هذا حين نتكلم عن الدين أساسا، وأما ونحن نتكلم عن الأيديولوجية الدينية أو الدين المؤدلج، فهنا يصبح الرهان على الخوف، خوف الإنسان من الموت، من العدو الخارجي، من أجهزة الأمن، من كل شيء، هو أساس الأيديولوجيات التسلطية جميعها.

من هنا ندرك دلالة الشعار المركزي للثورة التونسية، التي كانت بحق منبعا صافيا لأولى ثورات الألفية الثالثة، سواء اعتبرناها مجهضة أم مستمرة أم مغدورة، شعار “لا خوف بعد اليوم”، ذلك الشعار الذي ظل يملأ جداريات شوارع العاصمة التونسية مدّة شهور طويلة. كان الحدس الثوري للشباب يدرك أنّ سقوط الخوف أهم من سقوط النظام نفسه؛ لأنه مؤشر على أنّ قطيعة قد جرت في المستوى النفسي والإنساني مع قيم الخوف والطاعة والولاء، وأنّ فرص الانتقال الديمقراطي متوفرة.

وبالفعل، لا يكفي انهيار جدار الخوف إذا لم تصحبه ضمانات قانونية ودستورية ومؤسساتية، لكن انهيار جدار الخوف يبقى شرطا إنسانيا ضروريا. وفي كل الأحوال فإنّ الشعوب الخائفة سرعان ما تنتهي إلى فقدان الشعور بالحرية، ومن ثم تعاود الوقوع في قعر الحجر والوصاية، مقابل إحساس خادع بالأمن.

فقدان الإحساس بالأمن الداخلي هو الرهان الأكبر لكافة الحركات المتطرفة. لكن، يبقى هناك فارق أساس، إذ يسعى المتطرفون عامة إلى تدمير الأمن الاجتماعي، فإنّ المتطرفين الدينيين يضيفون إلى ذلك الهدف هدفا آخر يتعلق بتدمير الأمن الروحي أيضا. واضح أن هذا يتناقض مع وظيفة الدين، لكن الأمور هكذا. فأنت يجب أن تكون خائفاً في كل لحظة وحين، خائفا من أحوال الدّنيا وأحكام الدين وأهوال الآخرة.

ولعلّ الاغتيالات التي طالت عدداً من رموز اليسار التونسي وعلى رأسها شكري بلعيد ومحمد البراهيمي، وكذا اللوائح التي تسربت حول اغتيالات محتملة، والتهديدات المتجددة، ليس الهدف منها التخلص من بعض الأشخاص المزعجين وحسب، لكن غايتها تتعلق بمحاولة تعميم الشعور بفقد الأمن والأمان، ومن ثمة إعادة الناس إلى دائرة الخوف، لأجل إخضاع النفوس ودفعها إلى الاستسلام لمصدر الخوف ذاته. وهذا بالذات هو المقصود بأشرطة الذبح التي تذيعها الجماعات المتطرفة بنفسها في أكثر من مناسبة وبلا مناسبة.

حين يرتعب الناس فإنهم سرعان ما يفقدون حريتهم، وبعد ذلك إما أنهم يستسلمون لمصدر الرّعب، وهذا رهان كافة الحركات الإرهابية، أو أنهم يبحثون عن ملاذ آخر للحماية قد لا يقل رعبا في بعض الأحيان، إلا قليلا قليلا. وفي كل الأحوال فإن تفاصيل المعركة المفصلية ضدّ الإرهاب التكفيري تتعلق بالتصدي إلى إستراتيجية الخوف، ذلك الخوف الذي يتوقع منه الإرهابي أن يستسلم الناس لمنبع الرّعب نفسه.

لقد أزاحت انتصارات الأكراد الأخيرة النقاب عن حقيقة لم يكن يراها الكثيرون: لا تتمثل قوة “الدولة الإسلامية” في أسلحتها، ولا في مقاتليها – غير المحترفين أصلا – وإنما تتمثل قوتها الأساسية في حجم الرعب الذي استطاعت إلقاءه في قلوب الكثيرين. إنه الفخ الكبير الذي وقع فيه كل الذين هربوا أو تهرّبوا من استحقاق المواجهة، أو فضلوا الانتظار. بكل تأكيد، لن تنتهي الحرب غدا، غير أن تطوراتها الأخيرة توجه رسالة إلى الخائفين: أكثر شيء يجب أن نخاف منه، هو الخوف نفسه.


كاتب مغربي


9