عن الأمومة والصحافة والحرب
انتشرت في الأسبوع الماضي على مواقع التواصل الاجتماعي، صورة مزدوجة لمقاتلة كردية في صفوف البيشمركة، وهي تقف بالزي الرسمي وتحمل السلاح على يسار الصورة، ثم وهي تجلس على كرسي وترضع ابنها، على اليمين.
وأثارت الصورة ردود أفعال متباينة، بل ومتطرفة أحيانا، بين من يرى أن هذه الأم المقاتلة تستحق الاحترام والتقدير، ومن يستنكر خروجها للقتال وتركها ابنها وحيدا، دون احتساب ما قد يلحق بها من أسر أو قتل.
وأجرت بعض المواقع الإلكترونية استفتاء حول الصورة، لمعرفة ردود فعل قرائها حولها، وبلغت المشاركات حدا مبالغا فيه، وهو أمر يمكن تفهمه، فالصورة من الناحية الصحفية ناجحة جدا، وتمكنت من بلوغ عدد لا بأس به من المتابعين، وحركت نقاشا تفاعليا واسعا، وهو ما يعتبر من الناحية الفنية والتقنية عملا موفقا.
تذكرنا الصورة بمشهد الجنود الأميركيين الذين كانوا يعودون في احتفالات الكريسماس ورأس السنة إلى عائلاتهم، فتنتشر صورهم في كل مكان وهم يحتضنون أطفالهم وزوجاتهم في مخارج المطارات، وأمام مدارج الطائرات الحربية، وهي صور وظفت لغرض إيجاد التعاطف مع هؤلاء الجنود وتقريبهم من تعاطف الرأي العام معهم، عبر تحريك مشاعر الود تجاه مقاتلين بواسل فارقوا عائلاتهم، وواجهوا الصحراء، والموت فداء للوطن.
بالبحث عن مصادر صورة المقاتلة الكردية على محرك غوغل اتضح أن صحيفة الغارديان البريطانية كانت قد نشرت الصورة ضمن مجموعة صور نساء كرديات يتدربن على القتال وحمل السلاح في أحد معسكرات التدريب الكردية بإيران، واكتفت الغارديان بصورة المرأة وهي تحمل السلاح، ولم تنشر صورتها وهي ترضع طفلها، والأرجح أن صورتها، وهي ترضع الطفل التقطت لها لاحقا، من قبل مصور غير مصور الغارديان. لماذا؟
لأن الغارديان ببساطة لا يمكنها أن ترتكب هذا الخطأ الأخلاقي الفادح. أقول أخلاقيا، لأن الصحافة لا يمكن أن تكون بمنأى عن الأخلاق مهما كانت دوافعها، ناهيك عن حرفية وخبرة الصحيفة الطويلة التي تمكنها من توقع مفعول عكسي للصورة.
فلا أحد في العالم يستطيع أن يبرر ترك أمّ ابنها للالتحاق بالقتال في صفوف جيش بلادها، ولا وطن يعتز بأم تهمل طفلها وتجوعه وتعرضه لخطر اليتم، ولا أم يمكنها أن تفاخر بأنها ترضع ابنها، لتتركه بعد قليل وتلتحق بالمقاتلين، ولا طفل يغفر لأم تموت وتتركه وحيدا مشردا، من أجل أي شيء كان، حتى وإن كان وطنا.
ماذا يريد أن يقول ناشرو الصورة، وأظنهم البيشمركة، لنا؟ وماذا تريد أن توصل لنا هذه الأم؟ أن الوطن أهم من الابن؟ أن الآباء يضحون بأبنائهم من أجل الوطن؟، وما هو الوطن في النهاية؟ هل هو التراب الذي نقف عليه؟ أم البشر الذين يحتضنهم؟ إن إهمال طفل وتركه يتيما لا يقل بشاعة عن احتلال وطن، لأن الوطن بشر قبل كل شيء.
تخيلوا لو أن كل الأمهات فعلن مثل هذه الأم، وأن جميعهن متن وتركن جيلا كاملا من اليتامى والمحرومين والمعذبين، عن أي وطن سنتحدث عندها؟
نحترم المرأة الكردية، ونحترم دفاعها الشرس عن بلادها ووطنها ضد داعش، ونقف لها إجلالا، لكن لتسمح لنا أن نذكرها ونذكر الجيش الذي تنتمي إليه: في البدء كانت الأم.