ما بين "مقاومة" حماس ودبلوماسية منظمة التحرير

لقد تريثت كثيرا في تناول هذا الموضوع بهذه المقارنة لما فيه من وجهات نظر مختلفة وفي بعض الأحيان تحمل الكثير من الجدل في ماهية المسار الفلسطيني الأكثر واقعية والأكثر تحقيقا للنتائج.
دعونا نبدأ “بمقاومة” حماس من حيث النظر في المعطيات المختلفة ومقاييس الربح والخسارة.
لقد تشكلت حماس في نهاية الثمانينات لأهداف لم تعد تخفى على أحد، فقد جاءت في ذلك الوقت وبدعم إسرائيلي لتحجيم نفوذ حركة فتح، العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية تحت ستار إسلامي تدعمه حركة الإخوان المسلمين ثم ما لبثت أن حققت نجاحات في وأد عملية السلام التي انطلقت بعد مؤتمر مدريد وتوجت باتفاق أوسلو، وعملت كل ما يلزم من أجل إفشال هذا الاتفاق، ومن ثمة بدأت في اللعب على حبال السياسة الإقليمية والاستفادة منها لتقوية الحركة من جهة ولتشكيل امتداد إضافي لما كان يسمى بالإخوان المسلمين من جهة أخرى.
ومن المعلوم أن قيادات حماس لا تؤمن بالبعد الوطني للقضية الفلسطينية ولكنها تؤمن بالبعد الإسلامي السياسي للقضية حسب رؤية الإخوان المسلمين والتي ليست موضوع حديثنا. المهم أن هذه الحركة اتخذت من البعد الإسلامي ستارا لتمرر عبره كل ما تقوم به واستفادت من التوجه الأميركي في وقت ما لأسلمة المنطقة بمساعدة قوية من دول إقليمية في المنطقة على رأسها إيران.
◄ الدبلوماسية الفلسطينية عبّرت في العديد من المراحل عن قدرتها ومرونتها في التعاطي مع الطروحات المختلفة بل عبرت عن براغماتية وفهم عميق للتحولات الإقليمية والدولية فكانت سدا منيعا في وجه بعض المخططات
هذه الحركة خاضت انتخابات تشريعية في العام 2006 بدفع وقبول من الولايات المتحدة وإسرائيل وبمساعدة دول إقليمية وفازت بها، وهذا فتح الطريق أمامها في أن تكون في موقع رسمي يؤهلها ويعطيها بعض الشرعية للحديث نيابة عن الشعب الفلسطيني، ومن ثمة ما لبثت أن انقلبت على السلطة الرسمية والنظام السياسي، وفصلت قطاع غزة عن الجسم الفلسطيني الذي تم تحديد ملامحه في إعلان الاستقلال عام 1988.
ومنذ ذلك الوقت بدأت حماس في انتهاج طريق التحالفات مع الدول الإقليمية ودخلت في لعبة المحاور فخاضت أربع معارك مع إسرائيل تحت شعار “المقاومة”، خرجت منها جميعها منهزمة بل ودمّرت الكثير من مقدرات الشعب الفلسطيني وأسهمت بقراراتها الخاطئة في قتل الآلاف من أبنائه. حتى جاءت المعركة الخامسة والتي تسمى “طوفان الأقصى” والتي عبرت بالفعل ولا تزال عن معنى ما يلاقيه الشعب الفلسطيني كنتيجة مباشرة لهذه الطامة الكبرى وهو أنه في مرحلة الغرق.
فماذا حققت “مقاومة” حماس؟ هناك وجهتا نظر في هذا الموضوع إحداهما تقول إن هذا الطريق أعاد القضية الفلسطينية لتكون القضية المركزية في العالم بعد أن كادت تندثر والأخرى تقول إن هذا الطريق وضع القضية الفلسطينية في وضع لا تحسد عليه وإن إسرائيل استغلت ما قامت به حماس على مدار السنوات الماضية لاسيما منذ السابع من أكتوبر لتنفيذ مخططها الشيطاني في الإجهاز على القضية الفلسطينية وتنفيذ مخططات اليمين المتشدد والمتمثل في أنه لا مكان للفلسطينيين في هذه الأرض، وأن هذه الأرض ملك لشعب إسرائيل بقرار من الرب.
ومن وجهة نظري الشخصية أرى أن حماس قدمت الشعب الفلسطيني كقربان على مذبح رؤيتها في كيفية عودة فلسطين على الساحة الدولية من ناحية وللتأكيد على أنها لاعب أساسي وأنها أيضاً تمثل الشعب الفلسطيني من ناحية أخرى في صراعها الدائم للقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية.
من جانب آخر عبّر قادتها في العديد من المناسبات أن الشعب الفلسطيني وضحاياه ومقدراته ليست لهم قيمة، فهم خسائر تكتيكية وأنهم سوف يقومون بإعادة بناء ما تم تدميره وأن من قتل فسوف يقومون بإعادة إنتاجه مبررين أن عدد المواليد خلال الفترة السابقة يساوي عدد الضحايا ويزيد وأنه لا بأس في ذلك فالمهم أن تبقى حماس!
وهنا يجب أن نقف ونفكر قليلاُ في نظريتين تتعلقان بتحقيق الهدف هما نظرية الموت ونظرية الحياة وأيهما أحق بالإتباع من أجل تحقيق الهدف وهنا علينا تفعيل حساب الربح والخسارة لتقييم هذا الموضوع!
◄ الدبلوماسية الفلسطينية حققت العديد من الإنجازات فزادت اعترافات الدول بفلسطين ليصل ما يقارب 150 دولة
ومن حيث مبدأ الربح والخسارة فإن تقييم نتائج هذه “المقاومة” ونتائج حكم حماس لقطاع غزة منذ استيلائها بالقوة على السلطة في قطاع غزة عام 2007 أصبح ضرورة منطقية لاستشراف المستقبل، فبعملية حسابية بسيطة نجد أنه خلال كل المعارك بين إسرائيل وحماس منذ عام 2008 وحتى ما قبل الطوفان المشؤوم سقط ما يقارب 70000 قتيل وأكثر من 130000 جريح من الجانب الفلسطيني بحد أدني، (هناك الكثير من المصادر تصل إلى مضاعفة هذه الأرقام)، في حين سقط في حدود 3000 قتيل وما يقارب 10000 جريح من الجانب الإسرائيلي. هذا بالإضافة إلى أكثر من 20000 معتقل فلسطيني خلال نفس الفترة.
ويمثل هذا بالنسبة إلى الفلسطينيين ما يوازي تقريبا عدد القتلى الفلسطينيين منذ عام 1947 ولغاية عام 2008 أي خلال 61 عاما من الصراع، أضف إلى ذلك نتائج الطوفان المشؤوم الذي لا تزال أرقامه في ارتفاع كل يوم، وأعتقد أن هذا مؤشر بسيط وواضح لأيّ قارئ أن يحكم بنفسه وأن يصل إلى نتيجة مفادها أن حماس تؤمن أن السبيل الوحيد لتحقيق النتائج هو الموت من أجل الهدف، وهي لا تريد أن تموت بل تريد من الجميع أن يموت حسب ما تراه، وعليه فهي لا تبالي بشعبها ومن يسقط منه، بل يؤكد بما لا يدع مجال للشك في أن حماس تبالي فقط بوضعها السياسي وحماية نفسها وما تحققه من مكاسب سياسية.
من الناحية الأخرى، نرى الخيار البراغماتي الدبلوماسي الذي حاولت من خلاله منظمة التحرير الفلسطينية، التي تشكلت في منتصف الستينات، وتبنت الكفاح المسلح وسيلة، وكيف تمكنت من الانخراط في المجتمع الدولي وثبتت مكانة فلسطين وشعبها وقادته نحو آفاق تضمن له دولة مستقلة مهما طال الزمن.
وبعد أن خاضت معارك مع الاحتلال قررت تغيير المسار وبدأ ذلك في عام 1988 بإعلان الاستقلال وصياغة الرؤية الفلسطينية والمبنية على أساس حل الدولتين ورغبة المجتمع الدولي وقرارات الشرعية الدولية، فبدأت في عمل دبلوماسي على جميع الجبهات وأدى ذلك إلى اعتراف ما يقارب من 100 دولة بفلسطين في حينه والذي كان له أثره للوصول إلى اتفاق أوسلو.
ولكن بصعود حركة حماس واليمين الإسرائيلي زادت تعقيدات العمل الدبلوماسي خصوصا جراء العمليات الانتحارية التي قامت بها حماس والجهاد الإسلامي قبل وبعد اتفاق أوسلو وما قام به اليمين الإسرائيلي من مذبحة الحرم الإبراهيمي واغتيال إسحاق رابين، أضف إلى ذلك التوجه الأميركي لأسلمة المنطقة وجعل الإسلام مرادفا للإرهاب بعد هجمات 11 سبتمبر2001 وصعود القاعدة ومن بعدها داعش.
◄ من المعلوم أن قيادات حماس لا تؤمن بالبعد الوطني للقضية الفلسطينية ولكنها تؤمن بالبعد الإسلامي السياسي للقضية حسب رؤية الإخوان المسلمين.. المهم أن هذه الحركة اتخذت من البعد الإسلامي ستارا لتمرر عبره كل ما تقوم به
أصبحت الدبلوماسية الفلسطينية تسير في حقل من الألغام ولكنها لم تكلّ ولم تأل جهدا بل سعت بمثابرة وكد وعمل لا يتوقف لزيادة الاعترافات بدولة فلسطين وتثبيت مكانتها وضمها لمختلف المنظمات الدولية ودمجها في المجتمع ورفع علمها في كل مكان، في حين كانت المنظمة تضع أسس النظام السياسي وتبني مؤسسات الدولة وعندما جاء الوقت المناسب أثمرت جهودها عن تغيير مكانة منظمة التحرير الفلسطينية إلى دولة غير عضو مراقب في الأمم المتحدة ما سهل عليها الانضمام لعدد كبير من المنظمات الدولية وأيضا للمحكمة الجنائية الدولية لتمتلك أدوات إضافية في إطار عملها الدبلوماسي تمكنها من مواصلة مسارها.
وقد حققت هذه الدبلوماسية العديد من الإنجازات في هذا الإطار فزادت اعترافات الدول بفلسطين ليصل ما يقارب 150 دولة وبالتالي عززت من تواجدها في مختلف الدول والمنظمات الدولية ولازالت تعمل جاهدة للوصول إلى ما ترنو إليه بحصول فلسطين على صفة دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة.
وعبّرت الدبلوماسية الفلسطينية في العديد من المراحل عن قدرتها ومرونتها في التعاطي مع الطروحات المختلفة بل عبرت عن براغماتية وفهم عميق للتحولات الإقليمية والدولية فكانت سدا منيعا في وجه بعض المخططات في وقت ما وانحنت عند اشتداد العواصف في أحيان أخرى وساهمت في مبادرات جادة مع الأشقاء والأصدقاء في مختلف أرجاء العالم لتحقيق حلم الشعب الفلسطيني بدولته المستقلة والتي نعتقد أن من أهمها هو المؤتمر الذي كان من المقرر أن يعقد في منتصف يونيو الجاري في الأمم المتحدة برئاسة مشتركة بين المملكة العربية السعودية وفرنسا والذي كان من المتوقع أن يحدث اختراقا كبيرا على المستوى الدبلوماسي لفلسطين وأن تعترف دول كبرى بفلسطين ليصبح عدد الدول التي تعترف بفلسطين أكثر من 170 دولة.
ولكن لهذا المسار أيضا كانت هناك خسائر تختصر في طول المدة وغياب الحلول في بعض الأوقات، ومن منظار الربح والخسارة وبحساب بسيط فإن طول المدة بخسائر أقل أفضل من قصر المدة وبخسائر كارثية، والأهم من كل ذلك هو الحفاظ على العنصر البشري الفلسطيني وتعزيز صموده على أرضه وفي نفس الوقت الحفاظ على الثوابت والخطوط الحمراء وعدم تجاوزها.
وهنا يبرز السؤال الأهم وهو: هل كان الشعب الفلسطيني في حاجة إلى ما قامت به حماس وغيرها من الحركات الإسلامية من أجل قضيته العادلة أم كان في حاجة إلى إعطاء الشعب الفلسطيني الأمل في إمكانية تحقيق حل سلمي يوصله إلى غايته وفي نفس الوقت يحافظ على كيانه وأرواح أفراده ومقدراتهم؟
والإجابة لا تزال أن كلا يرى الأمور من منظاره الخاص ورؤيته.