المقاهي اليمنية في الولايات المتحدة مساحة المهاجرين لاستعادة تقاليد وطنهم

وضع المهاجرون اليمنيون بصمة نجاح في صناعة قهوتهم التقليدية والانتشار في الولايات المتحدة، التي شهدت في السنوات الأخيرة افتتاح المئات من المقاهي اليمنية، التي تعكس ثقافة المهاجرين الذين يبحثون عن مساحة تمكنهم من عيش تقاليدهم بنكهة قادمة من الوطن.
ميشيغان (الولايات المتحدة) - أصبحت المقاهي التي يملكها الأميركيون اليمنيون ركنا أساسيا في حياة الكثير من المهاجرين، لاسيما في مناطق مثل ديربورن، الضاحية التابعة لمدينة ديترويت والتي تُعدّ ذات أغلبية عربية أميركية. وقد انتقل حمزة ناصر إلى هناك في أوائل التسعينات، وهو في السادسة من عمره، قادما من اليمن، الذي يُعدّ أحد المواطن الأصلية لثقافة القهوة، بوصفاتها وطرق تخميرها التي تعود إلى قرون، وبحبوبها البنية ذات القيمة العالية.
وسلطت صحيفة نيويورك تايمز في تقرير الضوء على كواليس هذا المجتمع العربي داخل الولايات المتحدة، مع التطورات في المنطقة التي انعكست مباشرة على أبناء اليمنيين في الولايات المتحدة ضمن تجمعاتهم التي تعتبر فضاء بديلا عن الوطن.
والمقاهي اليمنية، خاصة في مناطق مثل ديربورن ذات الكثافة العربية، لم تعد فقط ملتقى للمجتمعات اليمنية، بل تحوّلت إلى وجهة محببة لجمهور أوسع. وتعكس هذه المقاهي مزيجا من الأصالة والحداثة، حيث تمتزج ثقافة القهوة التقليدية بمساحات عصرية جذابة تشبه أجواء صالات المطارات أو قاعات الجامعات.
قبل أسبوعين، عندما علم ناصر بقصف الجيش الإسرائيلي لميناء الحديدة اليمني، أدرك أنه يواجه مشكلة. فقد كانت شحنات القهوة الشهرية التي يأتي بها من بلاده تتضمن بالفعل رحلة شاقة من المناطق الجبلية الداخلية في البلاد إلى مقهاه في ديربورن، ميشيغان، في ظل وجود فصائل متحاربة برا ونيران المتمردين بحرا. والآن أصبح طريقهم المعتاد مسدودا.
موجة طلب متزايدة على "أماكن ثالثة" بعيدا عن المنزل والعمل مفتوحة لساعات متأخرة ولا تقدم فيها المشروبات الكحولية
وقال ناصر “الأمر أصبح مرهقا بعض الشيء.” فالمقهى اليمني يتطلب قهوة يمنية، وناصر الذي يخطط لافتتاح المزيد من المقاهي اليمنية، يحتاج إلى المزيد من حبوب البن.
وافتتح الشاب اليمني وهو سائق شاحنة سابق، أول مقهى باسم “حراز” له في ديربورن قبل أربع سنوات. ومنذ ذلك الحين، انتقل من نقل قطع غيار سيارات مثل فورد إلى شراء مبنى مساحته 70 ألف قدم مربعة في ديربورن يضم نماذج أولية لسيارات الشركة.
ويضم مقره الرئيسي الآن محمصتين صناعيتين ومخبزا، حيث وصل مؤخرا طاهي معجنات من فرنسا لتدريب موظفيه. وفي مكتبه في الطابق العلوي، يقوم فريق الامتياز التابع له بتحليل الأرقام حول المكان التالي الذي يجب أن يفتتحه، لتكون النتيجة على نحو متزايد، “في كل مكان”.
ناصر، الذي ينوي مضاعفة فروعه إلى 60 مقهى خلال الأشهر الستة المقبلة، سعى في البداية إلى افتتاح مقاه في الأحياء العربية أو قرب المساجد. لكن بحثه اتسع ليشمل أي مكان يضم شريحة واسعة ومتنوعة من الشباب، أو حيث تسهر العائلات حتى وقت متأخر من الليل وتشتري عدة جولات من لاتيه الفستق بسعر 7.95 دولار.
ويُعد اليمن الموطن الأصلي لثقافة القهوة، بوصفات وطرق تخمير عريقة، وحبوبها الترابية ذات قيمة كبيرة، وبالنسبة لناصر، كان دخول المقاهي التي يديرها المهاجرون، حيث كان رجال مسنّون يلعبون الورق لساعات، يُصدرون الأوامر بصوت عال وسط أعمدة الدخان، بمثابة زيارة إلى الوطن.
لكنه وغيره من رواد الأعمال اكتشفوا جاذبيةً أوسع بكثير، مستفيدين من موجة طلب متزايد على مستوى البلاد على “أماكن ثالثة”؛ أماكن تجمع خارج المنزل والعمل، مفتوحة لساعات متأخرة ولا تُقدّم فيها المشروبات الكحولية.
وتُسهم المقاهي اليمنية في إحياء ثقافة المقاهي المسائية التي لم تُشاهد بكثرة في الولايات المتحدة منذ حقبة مسلسل “فريندز”. وقد تم تحديث مظهرها في “حراز”، حيث تلتقي الجماليات البراقة لصالة كبار الشخصيات في المطار بحيوية اتحاد الطلاب خلال أسبوع الامتحانات النهائية في مكان يمكن فيه العمل، والدردشة، أو المغازلة تحت إضاءة تُناسب إنستغرام، حتى وقت متأخر من الليل.
وقال بهاء قدورة، مستشار الامتيازات التجارية الذي ساعد ناصر في وضع إستراتيجية توسعه السريع، “هناك فجوة واضحة في السوق. الناس بحاجة فقط إلى مكان لطيف لقضاء وقت ممتع.”
وبوجود سلاسل أخرى مثل قهوة “قمرية” و”بيت قهوة”، تستغل “حراز” هذه الفرصة من خلال منح الامتيازات التجارية. وتأسست هذه السلاسل الثلاث على بعد أميال من بعضها البعض في ضواحي ميشيغان.
وإلى جانب ساعات العمل المتأخرة، عادةً من الحادية عشرة مساءً أو بعدها، تتشارك هذه السلاسل في قائمة طعامها أصنافا أساسية، مثل الشاي بنكهة الهيل ولاتيه الفستق. (تستمد هذه العلامات التجارية دعمها من مراجعي تيك توك الذين يُسرّهم تحليل الفروق الدقيقة في النكهات والأجواء). كما يشارك المراجعون شكاوى حول ارتفاع سعر اللاتيه وطول انتظار الشاي خلال زحام مساء الجمعة.
ولم يواجه ناصر صعوبة تُذكر في جذب أصحاب الامتيازات الراغبين في إنفاق ما يصل إلى 500 ألف دولار أميركي لافتتاح فروع جديدة (بما في ذلك رسوم امتياز قدرها 50 ألف دولار أميركي)، سواء كانوا مالكين فرديين أو مستثمرين كبارا ممن يفتتحون عادة فروعا لمطاعم مثل تشيك فيل – أي أو بافالو وايلد وينجز. ويشكل اليمنيون نسبة ضئيلة من الملاك الجدد. قال ناصر “أعمل مع رجل يُدعى كودي في كولورادو. هل تصدق ذلك؟”
ووقّع دان تيبمان مستثمر عقاري تجاري، مؤخرا أول عقد إيجار له مع مقهى يمني في شمال كاليفورنيا، ويجري حاليا مفاوضات لعقد عدة عقود أخرى. وقد سمع لأول مرة عن القهوة اليمنية من خلال تقارير عن مواقف السيارات المزدحمة في مراكز التسوق التي كانت تُعتبر سابقا مناطق نائية. وقال “لم أشهد في مسيرتي المهنية مثل هذا الاهتمام المفاجئ بمفهوم تجارة التجزئة.” وأضاف أنه إذا كان هناك سقف لهذا التوجه، فهو لا يراه بعد. لكن قلة قليلة من العلامات التجارية ستصمد في النهاية.
وذكر ناصر أنه لا يمانع المنافسة (مع أنه يندم على عدم تسجيل براءة اختراع لوصفة لاتيه الفستق). وتشمل أحلامه إضافة المئات من الأنواع الأخرى خلال السنوات القليلة القادمة، والتوسع خارجيا، وإدراج “حراز” في بورصة الأوراق المالية، تماما مثل ستاربكس.
وكان لديه أحلام أخرى سابقا، حيث بدأ العمل في مجال النقل بالشاحنات بعد أن سئم من إدارة محطة وقود في شرق ديترويت في العشرينات من عمره. كان الدخل جيدا بما يكفي لشراء ثلاث شاحنات نقل ثقيل إضافية وتوظيف سائقين، وبدأ مشروعا جانبيا في استيراد القهوة اليمنية من خلال علاقات عائلية. عندما قرر ناصر وزوجته أن الوقت قد حان ليتوقف عن القيادة، كان افتتاح مقهى أمرا منطقيا.
وعلى الطريق، كان يتوقف كثيرا في ستاربكس وسلاسل المقاهي الأخرى، غالبا للهروب من عزلة سيارات الأجرة. لكنه لاحظ أنهم يركزون على الكفاءة في الدخول والخروج على الراحة. فقرر أن يكون مقهاه الخاص مكانا للاسترخاء والتواصل الاجتماعي، على غرار المقاهي القديمة التي نشأ فيها، ولكن مع تحديثه بمظهر عصري شاهده أثناء زيارة عائلته في دبي. وقال ناصر “أردنا أن نضفي على المكان أجواءً نظيفة وآمنة. إنها تعني: أنت بأمان هنا.”
وجد هو وزوجته موقعا، وهو مكتب تأمين قديم على الشارع الرئيسي في ديربورن، حيث ركّبا بارا ببلاطات قرص العسل تُذكّر بـ”خلية النحل”، وهو خبز يمني محشو بالجبن، وحوَّلا الجدران الصلبة إلى نوافذ واسعة متعددة الألواح، ليس فقط لدخول الضوء، بل أيضا لإخراجه، ليتوهج المتجر ويجذب الزبائن ليلا.
وفي يوم الافتتاح، اصطف الزبائن لساعات قبل الافتتاح. تذكر ناصر شكوى واحدة: زبائنه، والكثير منهم مهاجرون، كانوا صارمين، يتوقعون شوكا ذهبية كالتي في الوطن، وليست بلاستيكية. وقال “إذا استطعت صنعها في ديربورن، فبإمكانك صنعها في أي مكان.” (أصبحت شوك الفرع الآن ذهبية).
وأثارت تصريحات ناصر الصريحة في الشؤون السياسية والدينية، بما في ذلك تغريدات قديمة مسيئة للشيعة، جدلا محليا بين الحين والآخر. (اعتذر ناصر وهو سني، وعقد زعماء دينيون محليون تجمعا للوحدة في موقف سياراته). لكن السكان المحليين استمروا في التوافد، وكذلك الاتصالات بشأن افتتاح فروع لسلسلة المقاهي.
وعلق ناصر بأن رسوم الامتياز وعائداته البالغة 4 في المئة ساعدته على التوسع في المقر الرئيسي، دون الحاجة إلى مستثمرين خارجيين. إلى جانب مشاكل الشحن (حيث تم تحويل مسار القهوة من الحديدة إلى عدن)، وتشمل انشغالاته الرسوم الجمركية – التي تزيد أسعار القهوة بمقدار 1.20 دولار للفنجان – واتجاهات المبيعات مثل شوكولاتة دبي، وهي حلوى مشهورة على تيك توك مصنوعة من الفستق والكنافة والطحينة. وقال ناصر “إنها منتشرة بشكل كبير الآن. لا أعرف متى ستختفي.”
حتى الآن، لا تزال الشوكولاتة تباع يوميا في فيلادلفيا، حيث افتتحت فرح خان وزوجها حمزة شيخ أول فرع لهما في “حراز”. فكّرا في افتتاح متجر شاي وسمبوسة مستوحى من تراثهما الباكستاني المشترك، لكنهما انبهرا بزيارة مقهى يمني، وحرصا على زيارة جميع العلامات التجارية في ميشيغان. قالا إن قرارهما استند إلى أيهما يُقدّم أفضل قهوة وأفضل آفاق نمو.

وكان افتتاح أول فرع لهما في “حراز”، الذي حل محل ستاربكس، بمثابة عاصفة، فقد قضت وقتا أطول بعيدا عن أطفالها مما كان متوقعا، كما قالت خان، وبذلت جهدا أكبر لمواكبة الحشود دون إرهاق الموظفين. لكن الزوجين كانا يخططان بالفعل لافتتاح فرعين جديدين. فقد كانت هناك شائعات، في نهاية المطاف، عن منافسين يتطلعون إلى فتح فروع قريبة. وذكرت “لحسن الحظ، نحن الأوائل.”
ومن بين المقاهي اليمنية أيضا، يوجد “بيت القهوة” الشهير، الذي أسسه إبراهيم الحصباني في ميشيغان قبل تسع سنوات، واليوم ينتشر أكثر من عشرين فرعا من نيويورك حتى تكساس، مع خطط للمزيد من الفروع في المستقبل.
ويسعى الحصباني من خلال هذه المقاهي إلى مشاركة ثقافة بلاده وتاريخها من خلال تقديم القهوة اليمنية المميزة، والتي تأتي من مزارعين محليين. ويوضح أن “بيت القهوة” يقدم مجموعة متنوعة من المشروبات بما في ذلك القهوة الإسبريسو واللاتيه، فضلا عن الحلويات التقليدية.
وفي تعليقه على القهوة اليمنية، أكد فيون بولر، كاتب مختص في صناعة القهوة، أن القهوة تتمتع بجودة عالية، مشيرا إلى أن القهوة التي وصلت مؤخرا كانت من بين الأفضل. ومع ذلك، أشار بولر إلى ارتفاع أسعار القهوة عالميا نتيجة تغير المناخ، مما يؤثر على الصادرات بشكل كبير.
كما أضاف أن معظم القهوة المستهلكة في الولايات المتحدة تأتي من أميركا اللاتينية، وهي تخضع لنفس الرسوم الجمركية المفروضة على القهوة اليمنية. ويقوم الحصباني بتأمين قهوته من مزرعة عائلية قرب صنعاء، رغم التحديات اللوجستية التي تسببت فيها الحرب، حيث يستغرق نقل الشحنات وقتا أطول بكثير بسبب الأوضاع الأمنية.
من جهته، عبّر مختار الخنشلي، رجل الأعمال والكاتب، عن قلقه من أن الدعم لمزارعي البن اليمنيين قد يعرضهم لمخاطر اتهامات بالإرهاب. وأكد أن 90 في المئة من قهوة اليمن تأتي من المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، مما يزيد من تعقيد الوضع.
وأكد الحصباني على أهمية أن يكون “بيت القهوة” مكانا يرحب بالجميع، ويساعد الأميركيين على التعرف على الثقافة اليمنية من خلال القهوة، بعيدا عن الصورة السلبية المرتبطة بالحرب والمجاعة.