حسابات إسرائيل في غزة بعد حرب إيران

من الطبيعي وجود التباس في تحديد المنتصر في حرب إسرائيل وإيران، فالطريقة التي أعلن بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقف إطلاق النار تسمح لكل طرف بالحديث عن نصر سياسي وعسكري، وهي طريقة معروفة في غالبية الحروب التي خاضتها إسرائيل ضد أجنحة إيران في المنطقة، لأن معيار تدمير القدرات المادية والخسائر البشرية خارج حسابات هذه الأجنحة، وتضع عدم تحقيق إسرائيل أهدافها من الحرب معيارا رئيسيا، وربما وحيدا، عند تقدير المكاسب والخسائر.
بهذا المفهوم أيضا، تقول إيران إنها حققت نصرا، استنادا إلى ما ذهبت إليه آلتها الدعائية من أن إسرائيل لم تتمكن من تدمير البرنامج النووي، أو تنهي مشروعها للصواريخ الباليستية المتطورة، أو تسقط نظام الحكم في طهران، بينما تقول إسرائيل إنها حققت نتائج مبهرة على كل هذه المستويات.
تشير هذه الحالة إلى أن ما جرى على مدار 12 يوما هو جولة في معركة ممتدة، ولا يعني توقفها بأمر من ترامب غياب الجولات الأخرى في المستقبل، فمشهد النهاية يفتح المجال أمام الاستفادة من الدروس والعبر، والاستعداد لجولة أخرى، من الصعب القطع بموعدها، لكن ربما تستأنف كل بضع سنوات، على غرار الآلية التي عملت بها إسرائيل مع حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية، والمتوقع أن يخرجا منها الفترة المقبلة بعد أن انتقلت المعركة إلى المواجهة مباشرة مع إيران.
قفز نتنياهو على حرب غزة إلى اتجاهات مختلفة، آخرها إيران، لكن عاد إليها مرة أخرى، فما لم يحقق جل أهدافه سيكون خسر سياسيا كل شيء، ولن تغفر له انتصاراته العسكرية على حماس وحزب الله وإيران
تقود هذه المقدمة إلى التعرف على ملامح من حسابات إسرائيل مع قطاع غزة، حيث لم تتوقف الحرب عليه طوال مدة الحرب مع إيران، وتؤكد الضراوة التي ظهرت بعد دخول إطلاق النار بين تل أبيب وطهران حيّز التنفيذ، أن القطاع سيشهد مزيدا من العنف، وليس العكس، عقب نيل إسرائيل من القدرات العسكرية لإيران وتحقيق هدف إستراتيجي في مرماها يمكّنها من تدشين ما تريده من ترتيبات في منطقة الشرق الأوسط.
هناك محددات تعزز استنتاج زيادة حدة المعركة في غزة الأيام المقبلة، أبرزها أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على يقين من أن النصر (النسبي) الذي حققه في مواجهة إيران لن يساعده في المتاجرة السياسية الكبيرة به، ومع كل المديح الذي كاله له الرئيس ترامب، غير أن الخسائر التي منيت بها إسرائيل، واعترف بها ترامب علنا، تفوّت الفرصة على نتنياهو لتقديم حربه على إيران على أنها أنهت أسطورة نظامها وتغولها في المنطقة، وتحقيق هدف حيوي واضح، يتمثل في تحكم إسرائيل في مقاليد الأمور، بما يتناسب مع رغبتها في الهيمنة ورسم خطوط جديدة للمنطقة.
معروف أن نتنياهو يهرب من حرب إلى أخرى، وأطال أمد حرب غزة، وفوّت كل الفرص التي لاحت للتهدئة ووقف إطلاق النار والاتفاق على ترتيبات لمرحلة ما بعد حماس، وكان يعتقد أن خوض حرب ضد إيران نهاية المطاف، عندما يحقق نصرا كاسحا، وما يكشف نجاحه أو فشله في هذا الهدف هو تعامله مع غزة، فإذا أوقف الحرب يستطيع المراقب أن يستشف تفوقه من خلال قدرته على ترتيب أوضاعها بالشكل الذي يريده، وإذا تمادى سيكون بنك أهدافه لم يتحقق أو أنه لا ينضب، فقد بات الفرار من الحرب إلى الحرب خيارا في سياسة نتنياهو، بعد أن تحولت إلى أداة وحيدة من أجل استمرر حكومته، ومنع تحلل تحالفه اليميني.
ما يعني أننا أمام فصل جديد في حرب غزة، حيث أثبتت معركة إيران أن الرئيس ترامب بمقدوره فعل كل شيء مع نتنياهو، لكنه يفعل ما يريد وقت ما يريد، وفقا لتقديرات معينة، ولا يشير اختفاء إرادة وقف الحرب على غزة من أجندة واشنطن الفترة الماضية، إلى إمكانية ظهورها الآن، على الرغم من حديث الرئيس الأميركي الجيد عن أهمية وقفها، لأن نتنياهو يعتبر غزة القشة التي يمكن أن تنجيه من مقصلة قانونية وسياسية، ما يشي أن كواليس حربه على إيران ربما تحمل مفاجآت عديدة.
إذا أوقف نتنياهو الحرب على غزة قد تتلاشى كل سردياته التي نشرها الفترة الماضية، وحملت معاني حاسمة على التفوق، فلا هو أعاد كل الأسرى بالقوة، أو قضى على حكم حماس تماما
إذا أوقف نتنياهو الحرب على غزة قد تتلاشى كل سردياته التي نشرها الفترة الماضية، وحملت معاني حاسمة على التفوق، فلا هو أعاد كل الأسرى بالقوة، أو قضى على حكم حماس تماما، وقد يخسر هدفه الذي تحقق وهو تقويض قدراتها العسكرية، ناهيك عن إضافة ملف التهجير إلى أجندته اعتمادا على مقترح قدمه الرئيس ترامب عقب توليه السلطة، ما يفرض على رئيس الحكومة اليمينية المتطرفة مواصلة الحرب على غزة، وعدم التراجع تحت وابل من الضغوط الداخلية، ظهرت معالمها بعد وقف إطلاق النار مع إيران.
قفز نتنياهو على حرب غزة إلى اتجاهات مختلفة، آخرها إيران، لكن عاد إليها مرة أخرى، فما لم يحقق جل أهدافه سيكون خسر سياسيا كل شيء، ولن تغفر له انتصاراته العسكرية على حماس وحزب الله وإيران وفي سوريا واليمن. وهي ورطة يعتقد أن استمرار الحرب على القطاع الباب الوحيد الذي ينقذه، أو بكلام آخر يؤجل حسابه، الذي فر منه أكثر من مرة، ودفعه إلى اختيار الحرب عنوانا محوريا في تصوراته، وليس اللجوء إلى السلام من خلال القوة وفقا للعنوان الأثير لدى الرئيس دونالد ترامب، حيث صعد نتنياهو إلى أعلى كل شجرة امتطاها، وهو لا يعلم شيئا عن الوسائل السياسية التي يمكن أن تعيده إلى الأرض مرة أخرى.
أنزله الرئيس الأميركي من شجرة إيران، لكن هل يستطيع أن يحقق ذلك بالنسبة إلى غزة التي زادت فيها الأمور صعوبة مع نجاح المقاومة في توجيه ضربات قاسية لجنود إسرائيل، وما فقده نتنياهو من جنود خلال الأيام القليلة الماضية يفوق ما عند حماس من أسرى عسكريين، وبدلا من أن تدفعه هذه النتيجة إلى وقف الحرب تحرضه على مواصلتها، ما يزيد الخسائر في صفوف جنوده، ويضاعف الضغوط الواقعة عليه.
تختلف حسابات إسرائيل في غزة بعد حرب إيران في زاويتين. الأولى: أن القطاع هو رأس الحربة، أو ضربة البداية في ما يجري بالمنطقة، وما لم يحقق نتنياهو كل ما أراده سوف يظل انتصاره منقوصا، ما ينطوي على إشارة بجولات أخرى، تتناقض مع رغبة الرئيس ترامب في توفير قدر من الهدوء يمهد لتطوير وتوسيع نطاق التطبيع بين إسرائيل ودول عربية. والثانية: أن المعركة مع إيران لا تحسم بضربة قاضية تتعرض لها من إسرائيل، ويبدو أن عملية تسجيل النقاط، عبر ما يعرف بالاستهدافات النوعية وحروب الظل المتعددة، هي الطريقة المناسبة حاليا.