مع سقوط السردية الإيرانية.. أسئلة عربية كبرى

في خضم هذا الزلزال الإقليمي يتعين علينا الاعتراف بأن لحظة الانكشاف ليست فقط لحظة انهيار قوة إقليمية بل هي لحظة ضرورة مراجعة شاملة لمفهوم الإسلام السياسي.
الأربعاء 2025/06/25
الوهم الذي انكشف

لم تكن الضربات الجوية الأميركية على منشآت فوردو ونطنز وأصفهان مجرد رد عسكري على مشروع نووي بات يثير القلق، بل شكلت لحظة مفصلية في التاريخ السياسي للمنطقة، ولحظة انكشاف غير مسبوقة للنظام الإيراني، الذي أُحيط لعقود بهالة من الرهبة المفتعلة، وصُوّر كقوة لا تُقهر، حتى ظن البعض أن طهران باتت تملك مفاتيح القرار في أربع عواصم عربية، وقدرتها على الردع تتجاوز الحسابات الإقليمية.

ما جرى لم يكن مفاجئاً في حد ذاته، لكنه جاء بطريقة فجرت سؤالاً جوهرياً، هل كان كل هذا البناء الذي قدّمته إيران طوال عقود مشروعاً حقيقياً أم مجرد خطاب متماسك فوق أرض هشّة؟ فالدولة التي ملأت الدنيا ضجيجاً بشعارات “الموت لأميركا” و“إزالة إسرائيل من الوجود” وقفت عاجزة، مرتبكة، وصامتة أمام أعنف ضربة وُجّهت لبنيتها الإستراتيجية منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979.

منذ الضربة الإسرائيلية الأولى في أبريل 2024، تبيّن أن طهران ليست بالثقل الذي حاولت أن تبدو عليه، إسرائيل اخترقت أجواءها، أصابت أهدافها، وأجبرت مؤسساتها على الصمت، وبعد أشهر من التلويح بالرد، جاء الصمت الإيراني أشدّ وقعاً من الرد نفسه، ومع توالي الضربات الأميركية، وتحوّلها من مناوشات غير مباشرة إلى عمليات عسكرية مركزة، بدا المشهد الإيراني كما لو أنه ينهار من الداخل، لا بسبب حجم الخسائر فقط، بل بسبب حجم الوهم الذي انكشف.

◄ إنها لحظة تاريخية بالمعنى العميق، لأنها لحظة سقوط الهيبة، وسقوط مشروع، وسقوط خطاب..، لكن الأهم أنها لحظة يجب أن ننتج منها معرفة، ليست لحظة شماتة، بل لحظة نقد عميق

ما حدث لم يُسقط صورة إيران في نظر خصومها فحسب، بل فضح هشاشة المشروع الذي بُني عليه كل النفوذ الإيراني في المنطقة، تهاوى الخطاب الذي وُصف بالثوري، وتكشّف أنه قائم على وهم امتلاك أوراق الضغط، بينما كانت هذه الأوراق تذبل واحدة تلو الأخرى،  حزب الله محاصر ومثقل، حماس منكشفة ومضروبة، الحشد الشعبي مشلول، والحوثي في وضع دفاعي دائم. أما “الهلال الشيعي” الذي طالما تفاخر به قادة الحرس الثوري، فقد انكسر في مفاصله كلها.

لكن لحظة الانكشاف الإيراني لا تخص طهران وحدها، إنها مرآة موجهة إلينا، نحن العرب، خصوصاً في أنظمتنا السياسية التي أثبتت تجارب العقدين الأخيرين هشاشتها الفاضحة، لو لم تكن بغداد ممزقة لما دخلتها إيران، ولو لم تكن دمشق مُسقطة السيادة لما استُبيحت بهذا الشكل، ولو لم تُهمل بيروت لِما تحوّلت إلى ثكنة مفتوحة لميليشيا مسلحة، أما صنعاء، فلو لم تُخن في لحظة غدر، لما تمكنت الجماعة الحوثية من اختطاف الدولة لصالح المشروع الإيراني.

ولذلك، فإن سؤال اللحظة يجب أن يكون أوسع من مجرد تقييم الضربة الأميركية، إنه سؤال جذري حول كيف تُركت دولة مثل إيران لتتحول إلى “قوة إقليمية” فقط لأن محيطها كان في أسوأ حالاته، ولو لم تصمد عدن في 2015، لما بقي في الجنوب أيّ نموذج مقاوم للاختراق، فالذين أنقذوا عدن لم يكونوا طائرات التحالف وحدها، بل أبناء الأرض الذين تمسّكوا بمفهوم الدولة الوطنية، وعقيدة الدفاع عن الجغرافيا ضد أيّ مشروع مذهبي أو طائفي.

علينا أن نعود إلى عدن، ونتأمل بعمق في عقيدتها الوطنية، لأنها قدّمت في لحظة انتصارها تكويناً متماسكاً لا يمكن فصله عن معنى الدولة والانتماء، ما جرى فيها لم يكن فعلاً عسكريًا فقط، بل تعبيرًا عن وعي جمعي استطاع أن يصمد حين كانت العواصم والمدن الأخرى تتساقط، وحين كانت السرديات تتكاثر حول ما سُمّي بـ”الهلال الشيعي” أو “البدر الشيعي” ومصطلحات أخرى وُلدت من ضعفنا.

◄ النظام الإيراني وصل إلى لحظة مكاشفة غير قابلة للترميم، فحين تنهار الأسطورة، لا تعود الشعارات قادرة على إقناع أحد

تلك السرديات لم تنشأ من فراغ، بل تأسست على استهلاك الفراغ، فراغ العقل العربي الذي أصابه الترهل بسبب خطاب ديني أحادي، أُغلق فيه باب الاجتهاد وانفتح فيه باب التوظيف السياسي، فضعف العقيدة الوطنية في الأنظمة العربية، وغياب المشروع الجامع، مكّن السردية الإيرانية من التشكل والتمدد، حتى تحولت إلى ما يشبه الواقع، رغم أنها كانت في جوهرها وهماً ضخّمته الشعوب والأنظمة معًا، وقبلته بديلاً زائفاً عن المشروع الوطني الحقيقي.

وفي خضم هذا الزلزال الإقليمي، يتعين علينا الاعتراف بأن لحظة الانكشاف ليست فقط لحظة انهيار قوة إقليمية، بل هي لحظة ضرورة مراجعة شاملة لمفهوم الإسلام السياسي، سواء في نسخته الشيعية التي مثلتها إيران، أو السنية التي مثّلها الإخوان وحلفاؤهم.، ففي الحالتين، كانت النتيجة واحدة، اختطاف الدين لصالح مشروع سلطة، واستخدام المقدّس لبناء جدران الفتنة داخل الأمة.

التوظيف السياسي للمذاهب، أياً كان مصدره، قاد المنطقة إلى الكارثة، فكما استخدمت طهران المظلومية الشيعية للتمدّد، استخدم آخرون المظلومية السنية لصناعة الانقسام، وحين تصبح الهوية الدينية أداة صراع سياسي، فإن الدولة تتآكل، والمجتمع ينقسم، ولا يبقى للناس سوى العنف بديلاً عن السياسة، والغيب بديلاً عن العقل، والجماعة بديلاً عن الوطن.

◄ ما جرى لم يكن مفاجئاً في حد ذاته، لكنه جاء بطريقة فجرت سؤالاً جوهرياً، هل كان كل هذا البناء الذي قدّمته إيران طوال عقود مشروعاً حقيقياً أم مجرد خطاب متماسك فوق أرض هشّة؟

وإذا كانت إيران قد قدّمت نفسها على مدار أربعة عقود كمركز مقاومة، فاليوم تسقط سرديتها بالكامل، والشعب الإيراني نفسه بات يطرح الأسئلة المؤجلة منذ 1979، ما الذي جناه الإيراني المواطن من مغامرات بلاده في العراق وسوريا ولبنان واليمن؟ أين هي فلسطين التي استُخدمت بوصفها ذريعة لكل هذا التوسع؟ ولماذا، حين وقعت الضربة، لم يتحرك الحلفاء؟ أين حزب الله؟ أين الحشد والفصائل؟ أين دمشق؟ الأسئلة في الداخل الإيراني ليست مجرد رد فعل، بل بداية انهيار إيماني كامل في الرواية الرسمية.

لقد وصل النظام الإيراني إلى لحظة مكاشفة غير قابلة للترميم، فحين تنهار الأسطورة، لا تعود الشعارات قادرة على إقناع أحد، وحين تُضرب البنية النووية للنظام أمام أنظار العالم، دون أن يتمكن حتى من الرد، فإننا أمام مشهد جديد: نهاية مشروع، لا نهاية نظام فقط.

ومن الجهة المقابلة، لا بد أن نرى كيف أدارت إسرائيل هذه الجولة،  صحيح أنها لم تنتصر بالمعنى العسكري الكامل، لكنها أجبرت خصمها على التراجع والصمت والانكشاف بل وحتى الركوع، وهذا في منطق الردع كافٍ، والأخطر أن الضربات الإسرائيلية ومن بعدها الأميركية لم تواجه برد يوازي حجمها، بل بإعلام متوتر، وأصوات سياسية مهزوزة، وتحليلات تتحدث عن التريّث والتبرير، فيما كانت الصواريخ تهوي على أهم منشآت إيران.

إنها لحظة تاريخية بالمعنى العميق، لأنها لحظة سقوط الهيبة، وسقوط مشروع، وسقوط خطاب، وسقوط أدوات، لكن الأهم أنها لحظة يجب أن ننتج منها معرفة، ليست لحظة شماتة، بل لحظة نقد عميق، فنحن كعرب، إذا لم نغتنم هذه اللحظة لتفكيك الموروث السياسي الطائفي، ومواجهة استحقاقات بناء الدولة الوطنية، فإننا نكرر نفس الأخطاء التي مكّنت إيران من اختراقنا.

لا يكفي أن نحتفل بسقوط سردية إيران، بل علينا أن نُسائل سردياتنا نفسها، فهل الدولة التي لا تُبنى على المواطنة قادرة على الصمود؟ وهل السياسة التي لا تضع العقل قبل الشعارات قادرة على الاستمرار؟ وهل نحن، بعد كل ما جرى، مستعدون حقاً لمغادرة هذه الدوامة؟

9