مصر مع تطبيق القانون وليست مع إيران

من فهموا موقف مصر على أنه تأييد مفتوح لإيران كانوا على خطأ، فما يهم القاهرة هو وجود توازنات بين القوى الإقليمية.
الأحد 2025/06/22
الكثير من الفواصل تلاشت بين مصر السنية وإيران الشيعية

ظهرت تلميحات من قبل إعلاميين وبعض النشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي في مصر تفيد بأن بلدهم يقف سياسيا إلى جانب إيران في حربها ضد إسرائيل، وتعززت هذه المسألة عندما قابلها نشطاء إسرائيليون باتهامات مباشرة للقاهرة بأنها راضية عن الضربات الإيرانية داخل تل أبيب، وما سببته من نتائج مادية ومعنوية مزعجة.

لم يعلن الموقف الرسمي المصري انحيازه إلى طرف بعينه، ويصعب فهم إدانة الضربات الإسرائيلية على إيران منذ البداية على أنها تمثل دعما لطهران، فقد جاءت انطلاقا من أن تل أبيب هي أول من وجه الطلقة الأولى، وهو ما حدث من قبل العديد من الدول العربية والإسلامية، بينها دول لها علاقات جيدة مع إسرائيل، وعلى خلاف مع إيران، لا يمكن تخوينها أو توجيه اتهامات أنها تقف مع طرف في مواجهة الآخر، لأن التداعيات يمكن أن تلحق ضررا بعدد كبير من دول المنطقة، بينها مصر، التي حذرت مبكرا من إمكانية انفجار الأوضاع في المنطقة وتوسيع نطاق الصراعات.

في تفسير ما يوصف بالانحياز المصري الشعبي إلى صالح إيران أسباب عدة، بعضها معنوي، يحوي مضمونا نفسيا. فلا أحد ينكر أن هناك شماتة شعبية في أن يرى مصريون وعرب صواريخ إيران تقصف مناطق حيوية في تل أبيب وحيفا وبئر السبع، بعد أن شاهدوا صواريخ وطائرات إسرائيل تهدم قطاع غزة وتقتل عددا كبيرا من الفلسطينيين، وحرمانهم من دخول المساعدات الإنسانية على مدار نحو عامين، من دون أن يتحرك المجتمع الدولي لردع إسرائيل، التي ضربت عرض الحائط بالقانون الدولي، وتعاملت باستعلاء مع منظمات أممية.

◙ الموقف المصري لم يعلن انحيازه إلى طرف بعينه، ويصعب فهم إدانة الضربات الإسرائيلية على إيران على أنها تمثل دعما لطهران

تلاشت الكثير من الفواصل بين مصر السنية وإيران الشيعية، بعد أن قامت جهات مختلفة بتغذية هذه المعادلة والنفخ في مفرداتها السلبية على مدار العقود الماضية، وعندما بدأت القاهرة تعيد الاعتبار إلى علاقاتها مع طهران عقب سنوات من شبه قطيعة، اشتدت المواجهة بين إسرائيل ومعها الولايات المتحدة ضد إيران، ما دعم قناعات بوجود مصالح مشتركة تتنامى بين القاهرة وطهران، وأيّد تكهنات حول ارتياح مصر لما تقوم به إيران، بعد أن زاد نهم إسرائيل إلى ما أسماه رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو بإعادة ترتيب الأوضاع في الشرق الأوسط وتغيير وجهه القديم، وتبشيره بنظام إقليمي، قد لا يكون لمصر مكان مؤثر فيه.

يقود ذلك إلى السبب الإستراتيجي الكامن في الحسابات المصرية، والذي يجعل القاهرة منحازة (ضمنيا) إلى إيران، إذ يمكن أن تخفف ضرباتها جزءا من العبء الثقيل الذي تمثله تصورات إسرائيل حاليا، وبالطبع مستقبلا، وسواء ربحت طهران الحرب أم خسرتها سوف تخرج تل أبيب منهكة منها، وفي حاجة إلى سنوات من أجل تدعيم قدراتها الردعية، فالانكشاف الذي أصابها له أضرار بالغة، ويتطلب ترميمه دعما أميركيا كبيرا، ربما لا تستطيع الإدارة الحالية بقيادة الرئيس دونالد ترامب توفيره بسهولة، ما يمنح القاهرة استراحة نسبية تستطيع فيها ترتيب أوراقها جيدا.

من فهموا موقف مصر على أنه تأييد مفتوح لإيران كانوا على خطأ، فما يهم القاهرة هو وجود توازنات بين القوى الإقليمية، وتطبيق القانون الدولي وعدم العصف بمحدداته، كما تفعل إسرائيل، وقد تكون إيران ارتكبت خروقات من خلال تدخلاتها في شؤون بعض دول المنطقة ورعايتها لأذرع وأجنحة إقليمية، لكنها لم تتبن تحديا سافرا لدولها الرئيسية، ومنحتها تصرفات إسرائيل في غزة ولبنان وسوريا، فرصة لتبرير تكوين هذه الأذرع، وأثبتت تحركات تل أبيب الأكثر عدائية مؤخرا أن طهران كانت على صواب عندما وجهت أجنحتها نحو إسرائيل.

أعلنت القاهرة مرارا تمسكها باتفاقية السلام مع تل أبيب، وأيّ تجاوزات أو خلل غير معلن لحق بها، كان نتيجة ممارسات عسكرية مخالفة لبنودها قامت بها إسرائيل في جنوب قطاع غزة، ما جعل اتهام مصر بأنها تقف إلى جوار إيران غير دقيق، لأن توجهات القاهرة داعمة للسلام وتسوية الأزمات بالطرق السياسية، وتخلت منذ خمسة عقود عن الحرب، إلا إذا كانت هناك ضرورة لها وحدث اعتداء على الأمن القومي، ما يعني أن تراكم الأسلحة الحديثة وتطوير الجيش المصري واستنفاره الدائم في سيناء، الذي غضب منه مسؤولون في إسرائيل، هو للردع أولا، وخشية انفجار الأوضاع في المنطقة، وتحسّبا من جرّ مصر إلى معركة فجأة.

إذاً مصر مع تطبيق القانون الدولي وليست مع إيران، مع الحلول السلمية وليس اندلاع حروب، مع عدم إنكار حقوق الشعوب وليس تقتيلها وتهجيرها، مع حق الدفاع عن النفس وليس شن الحروب لأسباب وقائية أو مفتعلة، مع تهدئة ووأد ومعالجة الصراعات وليس تفجيرها في منطقة تتسم بدرجة عالية من السيولة، مع البحث عن تسويات عادلة للأزمات وليس القفز عليها واختلاق نزاعات جديدة، ففكرة علاج الأزمة بإيجاد أخرى قد تحمل نتائج سلبية على من يبدأها، وهو ما ظهرت معالمه على إسرائيل، حيث أغوتها قوتها على استكمال أهدافها العسكرية، وخروجها عن النسق التاريخي للحروب القصيرة مع جماعات مسلحة إلى مجابهة دولة في حجم إيران كانت على أعتاب امتلاك قنبلة نووية، ويمكنها أن تسبب إرهاقا لإسرائيل.

◙ مصر مع تطبيق القانون الدولي وليست مع إيران، مع الحلول السلمية وليس اندلاع حروب، مع عدم إنكار حقوق الشعوب وليس تقتيلها 

يعيد موقف القاهرة من حرب إسرائيل وإيرن الاعتبار إلى خطاب مصر الرسمي المعلن الداعم لوقف الصراعات، ولا يضعها في خانة واحدة مع إيران، كما يريد إسرائيليون، وتعريضها لضغوط وربما ابتزاز سياسي، وقد تسفر هذه الحرب عن مكاسب إستراتيجية كبيرة لمصر، على خلاف ما تمنّته إسرائيل، في مجال تعزيز خطاب القاهرة الداعم لاحترام القانون الدولي، وأن قانون الغابة الذي يسعى البعض إلى تطبيقه على إيران، كما حدث مع غزة ولبنان وسوريا، سوف ينطوي على مخاطر جسيمة، تصيب رعاته ومن يقفون خلفه، فمهما كانت الخلافات حادة والصراعات متفاقمة، والنزاعات منتشرة، يمكن البحث عن وسائل سياسية للحل، فالتصعيد المضاعف وبلا ضوابط يمكن أن يتحول إلى وبال على أصحابه.

تفسر عقلانية، وربما حذر، مصر في التعامل مع الأزمات الإقليمية، بُعد نظر قيادتها، التي فوّتت كل الفرص على محاولات توريطها في ليبيا والسودان وغزة وجنوب البحر الأحمر، وبالطبع مع إثيوبيا التي اعترف الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن بلاده موّلت ودعمت مشروع سد النهضة الإثيوبي. فماذا كان سيحدث لو أن القاهرة انخرطت أو تورطت في أيّ من هذه الأزمات، وسط كمّ كبير من التطورات المتلاحقة، والأهداف التي حملها نتنياهو في جعبته؟

تبدو الإجابة أو النتيجة واضحة، ولا تحتاج إلى تسليط الضوء عليها، إذ يكفي تخيّل أن الجيش المصري أرسل وحدة واحدة إلى أيّ من هذه الأزمات المركبة، فلن يستطيع بسهولة الخروج منها، وهو ما كان في عقل القيادة المصرية دوما، ففي ظلّ السخونة التي تعيشها المنطقة، وإعادة ترتيب أوراق الدومينو، يمكن أن تصبح مصر إحدى الضحايا، الأمر الذي يؤكد أن سعيها لتطبيق القانون الدولي وعدم العصف بثوابته هو الوسيلة التي تضمن كبح الصراعات وتوفير قدر مناسب من الأمن والاستقرار في منطقة متقلبة وتمر بأسوأ مراحلها الجيوسياسية.

5