الخوارزميات تدخل قاعة المحكمة

قضاة ومحامون يستخدمون الذكاء الاصطناعي… والقانون يواكب التحديات.
الأحد 2025/06/22
تحديات وآفاق جديدة للعدالة

بدأ الذكاء الاصطناعي يلعب دورًا متزايدًا في النظام القضائي الأميركي، من دعم القضاة في صياغة الأحكام، إلى مساعدة المحامين في البحث القانوني، وحتى استخدامه من قبل الأفراد. ورغم فوائده في تسريع الإجراءات، يثير استخدامه تساؤلات حول الدقة، والعدالة، وضرورة التنظيم القانوني والتدريب القضائي.

نيويورك ـ في مشهد كان مستحيلاً تخيله قبل سنوات قليلة، بدأت خيوط الذكاء الاصطناعي التوليدي تنسج نفسها في نسيج النظام القضائي الأميركي. ولم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تحليلية أو خيالية في روايات التقنية المستقبلية، بل أصبح حاضراً فعلياً في قاعات المحاكم، يُستخدم من قبل القضاة، والمحامين، وأفراد الجمهور. ومع هذا الاستخدام المتزايد، تزداد التساؤلات حول تأثيره الحقيقي على العدالة.

ففي حادثة غير مسبوقة في فينيكس، أريزونا، استُخدم نموذج ذكاء اصطناعي لتجسيد شخصية ضحية جريمة قتل، قُتل عام 2021، حيث قامت شقيقته بتصميم شخصية افتراضية له باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، لتُلقي من خلاله كلمة مؤثرة أمام القاضي. وعبّر القاضي تود لانغ عن إعجابه بهذا النموذج قائلاً “لقد أعجبتني هذه الشخصية الافتراضية للضحية. أجد أنها تعبّر عن الحقيقة،” ما أضفى بُعدًا إنسانيًا فريدًا على مجريات المحاكمة.

هذه الواقعة، رغم أنها الأولى من نوعها، إلا أنها تعكس واقعًا جديدًا يتشكل في النظام القضائي، فاستخدام الذكاء الاصطناعي لا يقتصر على تحليل البيانات، بل بدأ يُسهم في التأثير على القرارات القضائية من خلال أدوات دعم القرار، وصوغ الدعاوى، وحتى التفاعل العاطفي في المحكمة.

من الضروري توخي الحذر في دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في القضاء، رغم أنها قد تمهد الطريق لتحول كبير

ويستخدم محامون مثل ستيفن شوارتز من بورتلاند أدوات الذكاء الاصطناعي مثل “تشات جي بي تي” و”بروتيجيه” (من ليكسيس نيكسيس)، بالإضافة إلى “كوكاونسل” من تومسون رويترز، للبحث في السوابق القضائية وصياغة المرافعات. ويشير شوارتز إلى أن هذه الأدوات توفّر الوقت وتساعد في الوصول إلى قرارات مدروسة، لكنها ليست معصومة من الخطأ.

تحذيره من الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي ينبع من حوادث وقعت فعلاً: دعاوى قانونية صيغت بأخطاء فادحة، نتيجة استخدام غير مدروس للأدوات التوليدية، مثل الاستشهاد بقضايا وهمية أو ذكر أسماء لا وجود لها. في إحدى القضايا في لوس أنجلس فرض قاضٍ فيدرالي غرامة على مكتب محاماة بعد أن تبيّن أن لائحة الدعوى تضمنت تسعة أخطاء قانونية في عشر صفحات فقط.

ويرى الكثيرون أن ما يحدث الآن هو بداية تحوّل رقمي عميق في المنظومة القضائية، يُحتّم على المؤسسات القضائية مواكبة التكنولوجيا بدلاً من تجاهلها. شاي كليري من المركز الوطني لمحاكم الولايات المتحدة يشير إلى أن الذكاء الاصطناعي جعل من السهل على الأفراد رفع دعاوى قضائية بأنفسهم دون الحاجة إلى محامين، الأمر الذي سيزيد من حجم القضايا المعروضة أمام المحاكم، ويتطلب استعدادًا مؤسسيًا لإدارة هذا التدفق الجديد.

التقدم التكنولوجي يدفع المحاكم إلى مفترق طرق حاسم: إما مواكبة الذكاء الاصطناعي بتنظيم واضح، أو المجازفة بالتخلف عن ركب العدالة الرقمية

من ناحيته، يرى البروفيسور دانيال لينا، أستاذ القانون في جامعة نورث وسترن، أن الذكاء الاصطناعي قد يُحدث ثورة في تحقيق العدالة، مشيراً إلى أن الخدمات القانونية لا تصل اليوم إلى نحو 80 و90 في المئة من السكان في بعض المناطق، ما يجعل الذكاء الاصطناعي فرصة لتقليص الفجوة في الوصول إلى العدالة.

ويقول لينا “التكنولوجيا ليست بديلاً عن القضاة أو المحامين، لكنها أداة لدعمهم. قد تتغير نتيجة بعض القضايا فعلاً عندما تتغير الأدوات التي تساعد في التحليل أو صياغة الأحكام، مثلما تتغير نتائج القضايا بتغير المساعدين القانونيين أو كُتّاب المحاكم”.

ورغم الإيجابيات، لا يزال استخدام الذكاء الاصطناعي يثير تساؤلات أخلاقية وقانونية جوهرية. فهل يمكن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في اتخاذ قرارات ذات طابع إنساني عميق مثل قضايا الحضانة، أو الجرائم الكبرى؟ وكيف نضمن أن القرارات التي يشارك في إعدادها نموذج لغوي مثل “تشات جي بي تي” تستند إلى فهم دقيق للسياق القضائي وليس إلى تنبؤ لغوي مجرد؟

أدرك عدد من القضاة الفيدراليين في واشنطن هذه الإشكاليات، فبدأوا يذكرون في قراراتهم أنهم استخدموا الذكاء الاصطناعي كمصدر للمراجعة والتحقق وليس لتكوين الرأي القضائي. ويطالب خبراء مثل لينا بضرورة إدخال الذكاء الاصطناعي إلى مناهج تدريب القضاة، حتى يكونوا على دراية بكيفية استخدام هذه الأدوات وتقييم نتائجها بدقة.

ويدفع التقدم التكنولوجي المحاكم إلى مفترق طرق حاسم: إما مواكبة الذكاء الاصطناعي بتنظيم واضح وتدريب مستمر، أو المجازفة بالتخلف عن ركب العدالة الرقمية. ولعلّ النموذج الجديد لا يتمثل في استبدال العنصر البشري، بل في تكامل بين الذكاء الاصطناعي والخبرة القضائية، لتقديم نظام أكثر عدلاً، وفاعلية، وقدرة على استيعاب تنوع القضايا وتعقيداتها.

إنها ليست مسألة “هل سيغير الذكاء الاصطناعي القضاء؟” بل “كيف نُعيد تصميم القضاء ليتماشى مع الذكاء الاصطناعي؟” مع ضمان ألا يفقد هذا النظام جوهره القائم على التقدير الإنساني، والعدالة المنصفة، واحترام كرامة الإنسان.

13