كناوة الصويرة… موسيقى تعبر الحدود وتوحد الأرواح

مهرجان كناوة بالصويرة يحتفي بالموسيقى العالمية والتقاليد الروحية، جامعا معلمي كناوة وفنانين دوليين في عروض فنية وثقافية. يشمل المنتدى الحقوقي ورشات وحوارات فكرية، ويعزز الحوار الثقافي والتواصل الإنساني عبر تجربة فنية متكاملة.
الصويرة (المغرب) - انطلقت مساء الخميس فعاليات الدورة الـ26 من مهرجان كناوة وموسيقى العالم بمدينة الصويرة، بافتتاح احتفالي مميز تمثل في موكب استعراضي بهيج شاركت فيه فرق كناوية، أمتعت الحضور والزوار الأجانب بهذا الفن التراثي العريق. وخلال الفترة من التاسع عشر إلى الحادي والعشرين من يونيو الجاري، تتحول المدينة الساحلية إلى منصة عالمية للتلاقح الموسيقي والحوار الثقافي، في تجربة روحية وإنسانية شاملة، يلتقي فيها معلمو فن كناوة – حماة التراث الروحي المغربي – بنجوم الموسيقى العالمية في لقاء يمتد على مدى ثلاثة أيام.
وبحسب المنظمين، يسعى المهرجان إلى خلق فضاء للتبادل الثقافي والتجريب الموسيقي، في أجواء تجمع بين عمق التقاليد الروحية وحيوية الإبداع المعاصر، مع التركيز على تعزيز قيم الانفتاح والحرية الفكرية من خلال لغة الموسيقى الكونية. ويتميز مهرجان كناوة وموسيقى العالم بطابعه الإنساني الفريد، حيث يعيش الجمهور تجربة متكاملة تتقاطع فيها الأبعاد الروحية والفنية والاجتماعية، مما يجعل من الصويرة وجهة عالمية لعشاق التميز والأصالة.
انطلق الموكب الافتتاحي من أمام باب دكالة، حيث اجتمع “المعلّمية” في دائرة متراصة لرفع الدعاء وتبخير المكان بأنواع البخور وسط زغاريد النساء. وبهذه المناسبة، أكدت منتجة المهرجان نايلة التازي أن ما كان قبل 28 عاما مجرد حلم، أصبح اليوم حدثا عالميا يواصل تطوره وتأثيره. وأضافت أن المهرجان يمثل مشروعا ثقافيا وطنيا ذا رؤية فلسفية وإنسانية عميقة، وقد ساهم في خلق دينامية فنية واقتصادية بالمنطقة، فضلا عن توفير فرص شغل للسكان المحليين.
شهد الافتتاح الرسمي على منصة مولاي الحسن حفلا استثنائيا شارك فيه نخبة من الفنانين العالميين، وتصدره المعلم حميد القصري، أحد أبرز رموز الطقوس الكناوية المغربية، إلى جانب فرقة “باكالاما” السنغالية المتخصصة في إيقاعات غرب أفريقيا، والفنانتين عبير العابد وكيا لوم، في توليفة صوتية تمزج بين الروحانيات المغربية والموسيقى المعاصرة.
عبّر المعلم حميد القصري عن سعادته بالمشاركة في هذه الدورة، وأشاد بالتناغم الموسيقي الذي جمعه بفرقة “باكالاما”، معتبرا أن المزج كان أقرب إلى اللعب الحر مع مجموعة كناوية. من جانبها، عبرت الفنانة عبير العابد عن فخرها بالمشاركة في المهرجان، وقالت إنها سعيدة بالوقوف إلى جانب المعلم القصري ودمجها بين الغناء الأندلسي والموسيقى الكناوية.
◙ منظمو المهرجان يؤكدون على هويته كمجال للابتكار والجرأة، يربط بين الجذور المحلية والتأثيرات الموسيقية المعاصرة
وتأمل نايلة التازي أن يستمر المهرجان ليبلغ نصف قرن، حتى في غياب المؤسسين، نظرا لأن فن كناوة تراث عالمي يهم جميع المغاربة. وتتميز دورة هذا العام بتنوع فني غني، حيث يلتقي المعلم حسام كانيا مع عازف الطبول الأميركي ماركوس جيلمور من نيويورك، في عرض مشترك على آلة الكمبري، بينما يدخل مراد المرجان في حوار روحي مع ظافر يوسف، رائد الجاز الصوفي.
تحظى موسيقى كناوة هذا العام بتمثيل قوي على منصة الشاطئ، حيث يقدم الفنانون الشباب عروضا مميزة إلى جانب المعلمين الكبار، في تجسيد حي لتواصل الأجيال وصون التراث. وتبرز المشاركة النسائية من خلال الفنانة أسماء حمزاوي وفرقة “بنات تمبكتو”، إلى جانب الفنانة المالية رقية كوني، في عروض تحتفي بالمقاومة والأخوة النسائية، وتعكس التقاليد والالتزام الاجتماعي.
ويؤكد منظمو المهرجان على هويته كمجال للابتكار والجرأة، يربط بين الجذور المحلية والتأثيرات الموسيقية المعاصرة، بمشاركة نحو 350 فنانا، من ضمنهم 40 معلما كناويا، يقدمون 54 عرضا موسيقيا على مدى ثلاثة أيام، تتنوع بين الحفلات الكبرى في الهواء الطلق والعروض الحميمية في فضاءات تراثية، ما يوفر تجربة موسيقية غنية ومتكاملة على مدار اليوم.
منذ أكثر من ربع قرن، لم يكن مهرجان كناوة بالصويرة مجرد حدث فني، بل مشروعا ثقافيا حيا، ينقل التراث ويجدد الحوار ويحفز الابتكار. إنه مهرجان يحتفي بغنى التراث الكناوي في تفاعله مع موسيقى العالم، جاعلا من الصويرة ملتقى دوليا تلتقي فيه التقاليد بالحداثة في روح من الإبداع والأخوة الإنسانية.
وعلى هامش الفعاليات الفنية، يعود “منتدى حقوق الإنسان” في نسخته الثانية عشرة، ليسلط الضوء هذا العام على موضوع “الحركيات البشرية والديناميات الثقافية”، بمشاركة نخبة من المفكرين والمبدعين من كتاب ومخرجين وعلماء اجتماع، أمثال إيليا سليمان، أندريا ريا، باسكال بالنشار، فيرونيك تادجو، كريم بوعمراني، كاسي فريمان، فوزي بنسعيدي، ريم نجمي وبارتيليمي توغو. يناقش المنتدى العلاقة المعقدة بين الهجرة والسرد والإبداع الفني والهوية، مقدما رؤى جديدة حول هذه القضايا المعاصرة في فضاء حر للفكر والتبادل المعرفي.
ويعود كذلك برنامج “بيركلي في مهرجان كناوة وموسيقى العالم” في نسخته الثانية، بالشراكة مع كلية بيركلي الأميركية العريقة، من السادس عشر إلى الحادي والعشرين من يونيو، بمشاركة باحثين وفنانين يستكشفون الروحانيات المتقاطعة وأصداء الطقوس الكناوية في موسيقى اليوم. ويضم البرنامج الثقافي أيضا فعاليات موازية مثل لقاءات “شجرة الكلام”، المستوحاة من التقاليد الأفريقية، ومعرض “بين اللعب والذاكرة” في برج باب مراكش، إضافة إلى ورشات موسيقية مفتوحة وحفلات في الشوارع، تتيح للزوار الانغماس في الأجواء الثقافية للمهرجان بعيدا عن زخم المنصات الكبرى.
يمثل مهرجان كناوة وموسيقى العالم بالصويرة تجربة متكاملة تمتد لثلاثة أيام، تدمج بين الإبداع والتفكير والدهشة، حيث تتحد الموسيقى لتجسر الهوة بين الثقافات، وتوحد ما فرقته المسافات، في احتفال إنساني وفني فريد من نوعه، مفتوح أمام جمهور العالم أجمع.