القاعدة تعيش صدمة هزيمة المقاومة واستدارة إيران

في خضم تقارب إيراني - مصري متسارع يُحاول تنظيم القاعدة، لاسيما فرعه في اليمن، تفادي مصير جماعة الإخوان بعد استدارة أنقرة. ويعكس خطاب سعد العولقي الأخير قلقًا من فقدان الرعاية والدور، وسط انكشاف مشروع الإسلام السياسي بجناحيه السني والشيعي في مرحلة إقليمية تُهمّش الجماعات الوظيفية.
القاهرة - يخشى تنظيم القاعدة المركزي، وفرع اليمن تحديدًا، من مصير جماعة الإخوان صُحبة حليفتها تركيا، بالنظر إلى الاستدارة الإيرانية الأخيرة باتجاه التقارب مع مصر، ما أعاد إلى الأذهان استدارة أنقرة التي أدت إلى انكشاف الجماعات الوظيفية المُوالية لها.
وواكب ظهور زعيم تنظيم القاعدة في اليمن سعد العولقي للمرة الأولى مؤخرا بخطاب دعائي متعدد الأوجه، التقاربَ الظاهر بين القاهرة وطهران، وشمل عقد لقاءات رفيعة تمهيدًا لاستعادة العلاقات بين البلدين.
وأوحت خطوة قيام طهران بتغيير اسم شارع خالد الإسلامبولي قاتل الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وهو ما كان ضمن مآخذ القاهرة على النظام الإيراني، باستعدادها للتخلي عن العديد مما كانت ترفضه في الماضي بصرامة، في ما يتعلق بعلاقاتها مع الجهاديين السنة.
وجاء خطاب زعيم القاعدة باليمن في خضم تطورات مهمة، فإيران تتلمس الخطوات التصحيحية لإعادة التموقع في المشهد الإقليمي، بعد نكسات مُنيت بها ميليشيات تابعة لها في لبنان وغزة وسوريا واليمن، ما جعل بعض الأجنحة تغرد مُنفرِدة، في محاولة يائسة لاستعادة الدعم والرعاية، أو إظهار التماسك في ظل انهيار محور المقاومة – طهران.
القاعدة يُكرِس الدعاية في محاولة لثني طهران عن نفض يدها من المشروع والانخراط في تسويات على حسابه
ويعيد ظهور العولقي بخطاب دعائي التذكير بمشهد جماعة الإخوان وفصائل تيار الإسلام السياسي، عقب تراجع مشروع العثمانية الجديدة بقيادة تركيا، واضطرار الرئيس رجب طيب أردوغان إلى إعادة التموضع في المشهد الإقليمي، من خلال إظهار رعاية واهتمام أقل بالكيانات المؤدلجة، مقابل اتخاذ خطوات ملحوظة للتقارب مع دول وأنظمة في المنطقة.
وتعيش الفصائل المسلحة السنية والشيعية التي كانت مُنضوِية في محور إيران حاليا حالة التخبط واللايقين، تشبه تلك التي عاشتها جماعة الإخوان في مصر بعد فشل مشروعها السياسي، وإخفاقها في استعادة ما أدى إلى استغناء إقليمي كبير عن خدماتها، وهو الذي بدا كأنه تناغم بين الدول على حساب الميليشيات والجماعات الوظيفية والمؤدلجة.
وكما بدأت جماعة الإخوان وفروعها محاولات إبْطَاء التحولات الإقليمية والتشكيك في جدواها، بالتوازي مع تكثيف الحضور على مستويات عدة بهدف استعادة زخم محور مُتراجِع، تمر الفصائل المدعومة من إيران، ومن بينها تنظيم القاعدة المركزي وفرعه في اليمن، بصدمة مُمَاثلة.
ووُجهت رسائل زعيم قاعدة اليمن إلى قائدة المحور المُتراجع، حيث يَهِم التنظيم إلى أن يظهر أمام طهران قويًا ومتمسكًا بقناعاته وجاهزًا للقيام بتكليفات في سياق الصراع العابر للحدود والإشراف على هجمات ضد الولايات المتحدة وقوى غربية، ما عُد محاولة وضع محور (شخص) يُعاني انكشافًا غير مسبوق على جهاز تنفس صناعي.
ويُشير هذا التطور إلى بدء مرحلة مُضافة تعزز عزلة تيار الإسلام السياسي الوظيفي، بعد أن جَرى تحييد وتهميش أدوار فروع التنظيم الدولي للإخوان التي كانت مُوظَفَة من قِبَل تركيا من أجل اختراق العُمق العربي ومد النفوذ السياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط.
ويَجرِي الآن البدء في تحييد وتهميش نسخة أخرى من نسخ التيار مُمَثلة في أجنحة تنظيم القاعدة المركزي المُتَبنِية لما يُطلق عليه الجهاد العابر للحدود، وفي القلب منها فرع القاعدة في اليمن.
وعَكَس خطاب زعيم القاعدة في اليمن سعد العولقي، والذي هاجم فيه بعض الدول العربية مثل مصر والأردن مُزايِدًا على الموقف من القضية الفلسطينية، أزمة ميليشيات تَتوجَس من مصير الانزواء والعُزلة والتهميش، وتسْتثمر الصراعات الإقليمية في الوقت الضَائع.
ومَر أكثر من عامين على حرب غزة، حدث خلالهما كل ما تعرفه الحروب وما لم تعرفه من مآس وكوارث إنسانية، كَاشِفة عن اندحَار تاريخي لكل ما يتعلق بالأساطير التي روجها الإسلاميون السنة والشيعة بشأن امتلاك ما تستحق به قيادة العالم الإسلامي لمواجهة إسرائيل والاستكبار الغربي.
ويُعْزى توقيت خطاب العولقي إلى الشعور بخطر قرب مرحلة الانزواء، إذ تُواكِب الاستدارة الإيرانية نفورًا جماهيريًا عربيًا من طيف الإسلام السياسي السني والشيعي وتُحَمّلُه غالبية الشعوب مسؤولية الأزمة التي حلت بالقضية الفلسطينية، علاوة على الكارثة الإنسانية في غزة، مع عدم القدرة على تحمل مسؤولية تبعات القرارات المُتخذة بشكل منفرد، واللجوء إلى المزايدة على الحكومات العربية.
ولن يتَسَنى للقاعدة المركزي استثمار العاطفة الجَارفة تجاه الحالة الفلسطينية، على خلفية المشاهد المُرِوعَة في غزة من قتل وتجويع، وجزء كبير من هذا الغضب مُوجه إلى القوى الإقليمية والميليشيات والجماعات التي تسببت في حدوث الكارثة.
ويُدرك تنظيم القاعدة المركزي وسعد العولقي الذي يحاول تثبيت نفسه كقائد في الإقليم وليس في الفضاء اليمني، أن استدعاء الخطاب الكَلاسِيكي بشأن “إحياء الجهاد الكوني” والتصدي للحرب “الصليبية” لن يُجْدِي في سِياقات التجنيد والتعبئة.
والنقمة الشعبية العربية والإسلامية مُوجَهَة إلى إسرائيل ومُتزَعِمِي الإسلام السياسي في الإقليم بالتسَاوِي، لكن القاعدة يُكرِس الدعاية التقليدية في محاولة يائسة لثني طهران عن الاستدارة، والتراجع عن نفض يدها من المشروع والانخراط في تسويات إقليمية على حساب الجماعات الوظيفية.
وتفقد الخطوة الإيرانية بسبب تلَمس طهران طريق الخروج من المأزق تنظيم القاعدة المركزي وما رَاهَن عليه في الأعوام الماضية، حيث خطط للاستفادة من الدعم الإيراني، والشراكة مع الحوثيين للعودة إلى مِضمَار الإرهاب العالمي، وملاحقة منافسه داعش، بجانب استعادة النفوذ بالداخل اليمني وتجاوز الضعف المالي والفقر العملياتي.
وتتوزع مختلف فصائل تيار الإسلام السياسي اليوم على عدة جبهات؛ إحداها جماعة الإخوان التي تعاني من فشلها في تجربة الحكم وتراجعها في سلم الأولويات والتوظيف من قبل السلطة المركزية في تركيا.
وتتمثل الثانية في تنظيم القاعدة الذي ينقسم إلى جناحين، أحدهما يحل محل الإخوان مع الحليف التركي، والثاني هو القاعدة المركزي ويلحق بجماعة الإخوان في تراجعها وعزلتها على وقع انكِسَار محور إيران.
ويكشف التناقض الحاصل بين أجنحة الإسلام السياسي المسلح وغير المسلح مُجتمعة، حجم التهافت والهشاشة الفكرية، والمستويات الضحلة في ما يتعلق بأسلوب التعاطي مع الملفات والإشكالات الكبرى.
تنظيم القاعدة المركزي يُدرك أن استدعاء الخطاب الكَلاسِيكي بشأن إحياء الجهاد الكوني والتصدي للحرب الصليبية لن يُجْدِي في سِياقات التجنيد والتعبئة
وداخل تيار السلفية الجهادية جناحان، أحدهما القاعدة المركزي وتغذى على الدعم والرعاية الإيرانية، وجناح آخر يستمد حضوره من الهجوم على إيران عقائديًا وسياسيًا، وهو داعش، ويتهم القاعدة وحماس ومن لف لفهما بخيانة السنة عبر التحالف مع طهران، وهي الجهة التي تسببت في مذابح ومآس لأهل السنة في العديد من دول المنطقة.
وينقسم تنظيم القاعدة نفسه إلى جناحين، أحدهما المركزي الذي ينضوي تحت لواء إيران وينشط دعائيًا محاولًا إنكار الهزيمة وتهاوي المحور، والثاني القاعدة المُتحور والمُعَادة تسميته، ونتجت عنه السلطة الحالية في سوريا بقيادة أحمد الشرع، وهي على النقيض تمامًا، حيث التحقت بالمحور الأميركي وتقدم نفسها كجبهة تصدّ للنفوذ الإيراني.
ويوجد مستوى تخبط آخر لأجنحة تيار الإسلام السياسي، بين فصائل تنخرط في مشاريع تمكين أميركية وغربية، مصنوعة لإعادة رسم المنطقة وتمرير مخططات، مثل انخراط جماعة الإخوان في مشروع ما بعد الربيع العربي، وتاليًا القاعدة ما بعد انحدار المحور الإيراني، في مقابل أجنحة أخرى تنشط في الإرهاب العابر للحدود ضد الغرب، مثل داعش.
ويدل التخبط المركب على الافتقار للعقول السياسية المبتكرة وعدم امتلاك منهجية متماسكة ومشروع موحد لحل الإشكالات الكبرى القائمة والتعاطي مع التحديات الإقليمية والدولية، ما جعل أجنحة الإسلام السياسي أدوات لتحقيق مصالح أطراف أخرى.
وقاد هذا التخبط إلى مرحلة تعاني فيها أجنحة داخل التيار من تبعات انتكاسة إيران فاقدة الدعم والرعاية، مقابل أخرى تنخرط في مغامرة حكم جديدة عقب فشل مغامرة الإخوان، ممثلة في جناح أحمد الشرع، وتحيط بها اتهامات بضرب الثوابت وتقديم تنازلات للاستمرار في سلطة هشة.
ومن المُرجَح ألا يثمر خطاب القاعدة في مختلف الاتجاهات، خاصة تلك التي قصد طرقها بهدف مواصلة دعمه وإمداده بالسلاح والمال، في ظل واقع يشهد جولة من التحولات الإقليمية، مُتوجَة بالتفافات من قوى إقليمية تُعد الركن الثاني الداعم للإسلام السياسي السني والشيعي في الإقليم.