عقود نفط أربيل تثير حفيظة بغداد

في العراق الاتحادي لا يوجد قانون نافذ للنفط والغاز، وبذلك لا يمكن وصف أي عقد يبرمه الإقليم بأنه غير قانوني لعدم وجود قانون ينظم صلاحيات ومسؤوليات توقيع العقود.
الجمعة 2025/06/13
ثروات للتنمية أم ألاعيب سياسية

‏تفتخر شعوب الأرض عندما تمتلك موارد طبيعية توفر لها حياة كريمة ومترفة، وأكثر ما تفخر به هي الثروات المعدنية كالفحم والنفط والغاز الطبيعي وغيرها من الثروات التي تُعد حاليًا المصادر الرئيسية للطاقة في العالم.

وتدعم الشعوب كذلك جهود حكوماتها الساعية إلى استثمار هذه الثروات وتطويرها وتنميتها وتسخير عوائدها لخدمة ورفاه المواطنين، الذين هم أصحاب هذه الثروات.

غير أن هذه الصورة تبدو مختلفة في العراق الجديد، فالثروات ومحاولة استغلالها تصبح أحيانًا مصدرًا لمعضلات وخلافات جديدة تُضاف إلى العديد من سابقاتها.

مثال ذلك ما حصل قبل ثلاثة أسابيع تقريبًا، حين وقّعت وزارة الثروات الطبيعية في حكومة إقليم كردستان – العراق عقدين مع شركتين، أميركية وكندية، لتطوير إنتاج الغاز الطبيعي في منطقة السليمانية بالإقليم.

◄ أطراف عراقية موالية لإيران تعمل منذ سنوات وبشكل ممنهج على إبقاء العراق مستوردًا للغاز والكهرباء من إيران، وتسديد فواتير باهظة تصل إلى نحو 8 مليارات دولار سنويًا

وقد جرت مراسم توقيع العقدين في العاصمة الأميركية واشنطن، وبرعاية مسرور بارزاني، رئيس حكومة الإقليم. مراسم توقيع العقدين حظيت بتغطية إعلامية واسعة، ومنحت بعدًا سياسيًا ودبلوماسيًا كبيرًا، تعزز بعد أن أيدتها الحكومة الأميركية، ممثلةً بوزارة الخارجية، وأعداد كبيرة من أعضاء الكونغرس الأميركي، حيث وصفت هذه العقود بأنها نموذج ملهم للشراكة في مجال الطاقة.

استأثرت هذه العقود بأهمية متميزة بين عقود الطاقة السابقة مع العديد من شركات استثمار النفط والغاز في المنطقة لعدة أسباب:

السبب الأول يكمن في أن هذه العقود تختص بالغاز الطبيعي، الذي أصبح محل اهتمام العالم، خاصة بعد تراجع إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، وتضاعف أسعاره في أسواق الطاقة إلى أربعة أضعاف ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية في شباط 2022.

الأمر الآخر هو ضخامة هذه العقود وكلفتها المالية المرتفعة، التي تجاوزت 100 مليار دولار، وبذلك تُعد عقودًا إستراتيجية، فهي تشير إلى حجم التجمعات الغازية والنفطية التي يمكن إنتاجها واستثمارها في هذين الحقلين، اللذين تتجاوز الاحتياطات التخمينية للغاز الطبيعي فيهما 10 تريليونات قدم مكعبة قياسية.

الأمر الثالث الذي منحها أهمية، أن هاتين الشركتين المتعاقدتين (أميركية وكندية)، وأن توقيع العقود معهما يمثل نقطة فارقة في صناعة النفط العراقية، إذ لم تحصل الشركات الأميركية ولا الأوروبية على مشاركة أو حصة جديرة بالاعتبار طوال جولات التراخيص التي أعلنتها وزارة النفط العراقية منذ أكثر من 10 سنوات.

يحتل قطاع الطاقة مكانة متميزة في برنامج إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي استلمت مقاليد الحكم في العشرين من يناير من العام الحالي، وبالتالي ستحظى هذه التعاقدات بدعم لافت من الإدارة الأميركية.

لم يتأخر رد الحكومة العراقية في رفض هاتين الاتفاقيتين، فبعد يوم واحد من توقيعهما (أي يوم 20-5-2025)، صدر بيان من وزارة النفط، فاحت منه بوضوح رائحة السياسة، حيث تضمن أن هذه الاتفاقيات غير دستورية وغير قانونية لأنها حصلت دون موافقة وعلم وزارة النفط الاتحادية!

ولكن البيان الذي أصدرته الوزارة في اليوم التالي أشار إلى أن الوزارة لا تمانع في التعاقد مع الشركات الأميركية، شريطة أن يتم ذلك بعلمها.

وتصاعدت ردود الأفعال المسيّسة لتصبح أكثر حدة، فبعد أيام أقامت وزارة النفط دعوى قضائية على حكومة الإقليم، في محاولة لإجبارها على إبطال هذه العقود. ووصل التصعيد السياسي إلى أعلى مستوياته يوم الخميس 29-5-2025، حين قطعت وزارة المالية الاتحادية رواتب موظفي إقليم كردستان لشهر مايو وللأشهر المتبقية من العام الحالي، تحت ذرائع لا تقنع أحدًا.

◄ الثروات ومحاولة استغلالها تصبح أحيانًا مصدرًا لمعضلات وخلافات جديدة تُضاف إلى العديد من سابقاتها

كان واضحًا أن حكومة الإقليم كانت تتوقع صدور ردود فعل متسرعة وشديدة من الحكومة الاتحادية، ففي يوم توقيع العقود، صرّح رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني بأنه لا داعي للانزعاج من هذه العقود، فهي تصب في صالح العراق وكذلك الإقليم.

من جانبه أكد وزير الثروات الطبيعية في الإقليم، الذي وقّع العقود، أن هذه الاتفاقيات لا تستهدف أحدًا، وإنما تهدف إلى تحسين البنية التحتية لقطاع الكهرباء في الإقليم، لأنها تركز على توفير كميات إضافية من الغاز الطبيعي المستخدم كوقود لمحطات الطاقة الكهربائية، بهدف الوصول إلى الاكتفاء الذاتي من الكهرباء عند وصول الإنتاج إلى 8000 ميغاواط في الساعة.

وأشار مسؤولون وخبراء إلى أن هذه العقود وُقّعت استنادًا إلى الصلاحيات القانونية التي منحها دستور العراق لعام 2005 للإقليم، بموجب المادة (121) من الدستور، كما أن المشاركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم والمحافظات المنتجة للنفط في إدارة الحقول النفطية كرّستها بوضوح المادة (112) من الدستور العراقي.

أما حول وصف هذه العقود بأنها غير قانونية، فهذا الأمر يمكن رده بسهولة، حيث لا يوجد قانون نافذ للنفط والغاز في العراق الاتحادي، وبذلك لا يمكن وصف أيّ عقد يبرمه الإقليم أو المحافظات المنتجة بأنه غير قانوني، لعدم وجود قانون ينظم صلاحيات ومسؤوليات توقيع عقود النفط والغاز وحيثياتها.

وعلى العكس من ذلك، فإن حكومة الإقليم قد أصدرت في العام 2007 قانونين: قانون رقم (21)، وهو قانون وزارة الثروات الطبيعية في الإقليم، الذي يوضّح واجبات الوزارة في إدارة القطاع النفطي وعمليات الاستكشاف والإنتاج والتسويق والمعالجة وغيره. والقانون رقم (22)، وهو قانون النفط والغاز في الإقليم، الذي يتضمن المراحل والعمليات المختلفة في إدارة هذه الصناعة النفطية في الإقليم.

‏ تعمل وزارة النفط الاتحادية بشكل جاد وحثيث، خاصة بعد تسلّم محمد شياع السوداني الكابينة الوزارية منذ العام 2021، على زيادة استثمار الغاز الطبيعي المصاحب للنفط، والذي تُحرَق منه الملايين من الأقدام المكعبة يوميًا في معظم حقول العراق.

وذكرت وزارة النفط في عدة بيانات أنها تعمل بجد على استثمار الغاز المصاحب وتقليل كمية الحرق تدريجيًا، وتخطط للوصول إلى نسبة استثمار الغاز بنسبة 70 في المئة في نهاية العام الحالي، و100 في المئة بحلول العام 2028.

وعليه، فإن عقود الإقليم الجديدة التي تركز على إنتاج الغاز الطبيعي واستثماره تُعد مكملة ومنسجمة مع جهود الحكومة الاتحادية، إذ أن كل ما يُكتشف من احتياطيات جديدة في الإقليم سيمثل إضافة إلى الرصيد (الاحتياطي) العراقي من الغاز الطبيعي.

وفي تصريح رسمي من الوزارة، يمتلك العراق احتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعي تتجاوز 127 تريليون قدم مكعبة قياسية (مقمق)، ما يضعه في المرتبة الحادية عشرة أو الثانية عشرة على مستوى العالم من حيث الاحتياطي الغازي.

◄ مراسم توقيع العقدين حظيت بتغطية إعلامية واسعة، ومنحت بعدًا سياسيًا ودبلوماسيًا كبيرًا، تعزز بعد أن أيدتها الحكومة الأميركية، ممثلةً بوزارة الخارجية

طورت وزارة الثروات الطبيعية في الإقليم حقولًا متميزة للغاز الطبيعي، وحققت بالتعاون مع شركات إماراتية معدلات إنتاج عالية تجاوزت 500 مليون قدم مكعبة قياسية يوميًا، وتهدف إلى تحقيق إضافات كبيرة في إنتاج الغاز الطبيعي عبر العقود الجديدة الموقعة في واشنطن.

يعتقد بعض المحللين أن هذه الإنجازات في قطاع استثمار الغاز الطبيعي، من قبل حكومة الإقليم الحديثة ذات الموارد والخبرات المحدودة، أثارت حفيظة وزارة النفط الاتحادية، التي شعرت بتلكؤ برامجها في استثمار الغاز، رغم مرور عقدين على تشريع الدستور العراقي.

ثمة عامل آخر، وهو أن تطوير إنتاج الغاز الطبيعي في الإقليم واحتمالية تزويد كميات منه إلى محافظات عراقية أخرى، سيُعجّل، وبالتزامن مع جهود وزارة النفط المستمرة في عزل الغاز المصاحب في العديد من حقول الجنوب، في الوصول إلى الاكتفاء الذاتي والاستغناء عن استيراد الغاز والكهرباء من إيران.

وهذا الأمر ترفضه أطراف عراقية موالية لإيران، ولها نفوذ في معظم مفاصل الدولة العراقية. هذه الأطراف تعمل منذ سنوات وبشكل ممنهج على إبقاء العراق مستوردًا للغاز والكهرباء من إيران، وتسديد فواتير باهظة تصل إلى نحو 8 مليارات دولار سنويًا.

وثمة شواهد على ذلك، منها: الاستهداف المتكرر لحقل غازي ضخم في الإقليم (حقل كورمور)، وعرقلة استثمار حقل غازي عملاق في محافظة الأنبار (حقل عكاز)، إضافة إلى التلكؤ في استثمار حقول غازية أخرى مثل حقل المنصورية (محافظة ديالى).

تتمنى دول عديدة أن تمتلك نصف ما يمتلكه العراق من خيرات وفيرة، على رأسها النفط والغاز، ومن المؤسف أن الإدارات الضعيفة وغير المهنية المتعاقبة لقطاع النفط والغاز لم تحرم الشعب العراقي من كامل ثرواته وحسب، بل استغلّت هذه الثروات وإيراداتها كأدوات في الألاعيب والمكائد السياسية.

9