الغلاء يجبر مواطنين على التخلي عن عاداتهم

ارتفاع أسعار التبغ يدفع الملايين من المصريين للإقلاع عن التدخين قسرا.
الثلاثاء 2025/06/10
ارتفاع أسعار السجائر يقلب موازين التدخين

تشهد مصر ما يشبه "الإقلاع الإجباري" عن التدخين، وفق بيانات حكومية كشفت عن تراجع ملحوظ في أعداد المدخنين، وذلك بالتزامن مع اليوم العالمي للإقلاع عن التدخين، وسط جدل مجتمعي واقتصادي حول تداعيات هذه الظاهرة على الصحة العامة، وسلوكيات الإنفاق، وأثرها النفسي والاجتماعي.

القاهرة – أظهرت إحصاءات حكومية جرى الإعلان عنها في مصر مؤخرا، تزامنا مع اليوم العالمي للإقلاع عن التدخين، ما يمكن وصفه بـ”الإقلاع الإجباري” عن التدخين، مع تراجع معدلات المدخنين، في وقت ارتفعت فيه أسعار التبغ كثيرا في السنوات الماضية، في ظل تعامل جهات حكومية مع ضرائب التدخين كأحد منافذ الدخل، وهو ما لا يتناسب مع الصعوبات المعيشية لطبقات تبحث عن قوت يومها.

وأعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر (حكومي) عن تراجع نسبة المدخنين في مصر إلى 14.2 في المئة، أي ما يقارب 10.3 مليون شخص، مقارنة بنسبة 17 في المئة في المسح السابق (2021 – 2022)، وركز هذا الإحصاء على أن الجزء الأكبر من المدخنين من الفئات العاملة، ما يشير إلى ارتباط التدخين بوجود دخل ثابت يمكن من خلاله استقطاع جزء من الميزانية.

وقبل ثماني سنوات، حين لم يكن إجمالي أعداد المواطنين في مصر تجاوز 100 مليون مواطن، بلغ عدد المدخنين 11 مليون شخصا، في حين أن الإحصاءات الحالية تشير إلى تراجع هذا الرقم بعد أن بلغ آخر تعداد سكاني 107 ملايين نسمة، ما يشي بالمزيد من التراجع في السنوات المقبلة، وسط صعوبات مماثلة يواجهها مصريون على مستوى توفير العلاج المجاني وارتفاع كلفة العلاج الخاص والمخاوف من أن تكون النتائج الصحية السلبية للتدخين مؤثرة على وضعهم الصحي وقدرتهم على إنجاز العمل.

تحديات كبيرة
تحديات كبيرة

وحسب بعض الإحصاءات، فإن أعلى نسبة للمدخنين تسجل في الفئة العمرية من 35 إلى 44 سنة بنسبة 19.2 في المئة، تليها الفئة العمرية بين 45 و54 سنة بنسبة 18.5 في المئة ثم الفئة العمرية من 25 إلى 34 سنة بنسبة 17 في المئة.

وتشير هذه النسب المرتفعة بين تلك الفئات العمرية إلى انعكاسات سلبية على المجتمع، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن هذه الفئات تمثل معظم مكون القوة العاملة، ما يجعل الأمر مقلقا على المستوى الصحي والاقتصادي أيضا.

وتستهلك ميزانية السجائر نصف قيمة راتبي الشخصي، وهو أمر يصعب تحمله، وفقا لمحمد سعيد، وهو معلم بإحدى المدارس الحكومية في القاهرة، فقد وصل سعر علبة السجائر الشعبية إلى 50 جنيها (الدولار = 49 جنيها)، ويحتاج في اليوم إلى علبتين ما يعني حاجته إلى استقطاع ثلاثة آلاف جنيه من راتبه، والذي لا يتجاوز 6500 جنيه، ما يضغط بشكل كبير على احتياجات المنزل ومصاريف الأبناء.

وأضاف في تصريح لـ”العرب” أن ما حدث معه قبل خمسة أشهر أنه وجد نفسه بحاجة إلى أن يقلع نهائيا عن التدخين، وواجه صعوبات في الشهر الأول، غير أن توفير قدر من المال لسد احتياجات أخرى أكثر أهمية كان دافعا نحو إنهاء العلاقة مع التبغ، وباتت ميزانية الجلوس على المقاهي وتدخين الشيشة مكلفة، ولا سبيل أمامه سوى البحث عن المزاج في أشياء أخرى، قد لا تكون مكلفة، مثل المشي أو البقاء لساعات طويلة على منصات التواصل الاجتماعي.

وأشار إلى أن التدخين عادة قديمة اعتقد أنها تساعده على تحمل صعوبات الحياة، وبعد أن أقلع عنها لا يعرف إذا كان بمقدوره التعامل بشكل أفضل مع الضغوط التي يتعرض لها أم سيتعرض إلى انتكاسة تجعله يبحث عن راحته، وإن كان ذلك مكلفا، وربما لا يكون اتجاه فئات عديدة للإقلاع عن التدخين مفيدا للحكومة، لأن السخط الكامن يمكن أن يتحول إلى فعل ممن ضاقت بهم سبل الحياة، والإقلاع الإجباري دون اقتناع كامل سوف تكون لديه تأثيرات نفسية سلبية.

حح

ويبلغ متوسط الإنفاق السنوي للأسر المصرية على التدخين 12.9 ألف جنيه، وأعلى متوسط إنفاق على التدخين بلغ 16.2 ألف جنيه، وأقل متوسط إنفاق على التدخين يقع في الشريحة الأولى، وهي شريحة الأسر الأقل إنفاقا بوجه عام، إذ يبلغ متوسط إنفاقها السنوي على التدخين 8.5 ألف جنيه.

وتنظم منظمة الصحة العالمية (WHO) الاحتفال باليوم العالمي للإقلاع عن التدخين في الحادي والثلاثين من مايو كل عام لإبراز المخاطر الصحية المرتبطة بتعاطي التبغ، والدعوة إلى وضع سياسات فعالة للحد من استهلاكه لحماية الأجيال الحالية والمقبلة من العواقب الصحية المدمرة، وحمايتها من المشكلات الاجتماعية والبيئية والاقتصادية لتعاطي التبغ والتعرض لدخانه.

قال الخبير الاقتصادي علي الإدريسي إن ارتفاع تكلفة الحصول على السلع في مصر يعد سبباً رئيسياً في تراجع معدلات التدخين. وأوضح أن الطبقات الفقيرة هي الأكثر ارتباطاً بالتدخين، وهي أيضاً الأكثر تأثراً بارتفاع معدلات التضخم خلال السنوات الماضية. وأضاف أن أصحاب الدخول المحدودة لديهم خيارات قليلة، وقد يكون الإقلاع عن التدخين خياراً مناسباً، لأن الشخص أصبح مجبراً على ذلك، ولم يعد بحاجة إلى محفزات أو أدوات مساعدة للإقلاع، إذ يبقى الظرف المعيشي هو العامل الأكثر تأثيراً.

مصريون يواجهون تحديات في الحصول على العلاج المجاني للإقلاع عن التدخين، مع مخاوف متزايدة من التأثير السلبي على صحتهم

وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن البحث عن السجائر المهربة والسجائر الإلكترونية زهيدة الثمن أصبح من بين الحلول التي يلجأ إليها البعض، وهي من المنتجات التي يصعب رصدها من خلال إحصاءات مبيعات التبغ. وأشار إلى أن ما حدث في مصر يعكس تعديلاً في سلوكيات الإنفاق على العديد من السلع، بما في ذلك التدخين، الذي يُعد سلعة ترفيهية رغم الإقبال الكبير عليه مقارنة بغيره من السلع. كما أكد أن الضرائب التي تحصلها الدولة من شركات التبغ تمثل مصدرا مهما للإيرادات الحكومية.

وأشار إلى أن ارتفاع أسعار السجائر في السنوات الماضية لم يؤثر فقط على المدخنين، لكن هناك تأثيرا عاما على المجتمع، لأن أصحاب الحرف ومن يعملون في الصناعات المختلفة يرون أنهم بحاجة إلى ضعف قيمة دخلهم اليومي أو الشهري، وينعكس ذلك على أسعار أجرة الحرفيين مثلا، ويتحمل المواطن العادي غير المدخن هذه الزيادة، والتدخين سلعة يهتم بها الملايين من المواطنين وتأثيرها قوي على الخدمات والسلع الأخرى.

شهدت سوق السجائر في مصر خلال الفترات الأخيرة اضطرابات واسعة، في ظل تفاوت كبير بين الأسعار الرسمية والأسعار المتداولة في السوق السوداء (الموازية)، والتي تجاوزت في بعض الأحيان ضعف السعر الرسمي.

وأقرت مصلحة الضرائب المصرية في أبريل الماضي تعديلات ضريبية سمحت بزيادة الحد الأقصى لجميع الشرائح السعرية للسجائر بنسبة 12 في المئة، وتضمنت التعديلات توسيع شرائح أسعار السجائر المفروض عليها الضرائب من خلال زيادة الحد الأقصى لشريحة سعر العلبة بواقع 12 في المئة سنويا لمدة خمس سنوات.

ودفع ذلك الشركة الشرقية للدخان في مصر إلى رفع أسعار السجائر أربع مرات العام الماضي، آخرها في نوفمبر، فيما تشير إحصاءات تحليل البيانات إلى أن بعض أصناف التبغ ارتفعت بمعدلات 68 في المئة خلال الثلاث سنوات الماضية ووصلت بعض أصناف علب السجائر إلى ما يقارب 100 جنيه للعلبة الواحدة.

حح

وتشير دراسات الاقتصاد السلوكي في مصر إلى أن المواطنين ذهبوا باتجاه التخلي عن المزيد من السلع الترفيهية التي تساعدهم على تحسين مزاجهم العام، لكن هناك وعيا بأهمية أن لا يتحول ذلك إلى فعل يؤدي إلى المزيد من المشكلات الداخلية، لكن ذلك يساهم في فقدان الثقة بها.

وتستهدف الحكومة المصرية تحقيق ضرائب من قطاع الدخان وسجائر المعسل بقيمة 95.6 مليار جنيه حتى نهاية يوليو المقبل، وهي تفوق حصيلة الضرائب عن العام الماضي بمقدار 10 مليارات جنيه، إذ بلغت في نهاية يوليو الماضي 85 مليار جنيه.

وقالت أستاذة علم الاجتماع بجامعة بنها (شمال القاهرة) هالة منصور إن المدخنين في مصر لجأوا إلى أدوات أخرى بعيدا عن شراء التبغ، وبعض الشباب اتجه إلى أنواع زهيدة السعر من المخدرات، ما يشكل خطرا مجتمعيا داهما، وفي المناطق الفقيرة والقرى تعد الشيشة الأكثر انتشارا، ويتم إعدادها من أنواع معسل ردئية، فيما اتجهت الطبقات الغنية إلى السجائر الإلكترونية التي يعتبرها البعض أكثر وجاهة.

وأكدت في تصريح لـ”العرب” أن مزاج المصريين، في كل الأحوال، معكّر بسبب الوضع المعيشي الصعب. وأشارت إلى أن بعض المواطنين يتجهون إلى سلوكيات أكثر عنفًا بدلاً من تفريغ طاقتهم السلبية في التدخين، ما ينعكس على ارتفاع معدلات العنف، حيث يتم تفريغ هذه الشحنة داخل الأسرة أو في الشارع، خاصة مع تراجع فرص التعبير أو تقديم الشكاوى بشأن المشكلات اليومية.

16