سوق "ديانا".. حنين إلى الماضي على أرصفة وسط القاهرة

الذكريات والصور والمقتنيات القديمة تتحول إلى تجارة ثمينة.
الخميس 2025/06/05
من الهواية إلى التجارة

في قلب القاهرة، ينبض سوق "ديانا" بالذكريات، حيث تتحول المقتنيات القديمة من صور وتحف وكتب وساعات إلى سلع تروي قصص أصحابها. إنه فضاء يستحضر فيه الزائر عبق الماضي، ويغوص في تاريخ أناسٍ غرباء أصبحوا قريبين بفعل الأشياء التي تركوها خلفهم، فبين الباعة المخضرمين والهواة المتحمسين يحتفظ السوق بسحرٍ خاص يلامس مشاعر الحنين، ويقاوم زحف الحداثة والتزييف.

القاهرة - خطوات قليلة تفصل بين عالم وسط القاهرة الصاخب، وسوق “ديانا” لبيع  التحف والأنتيكات والصور والكتب والمقتنيات القديمة، وبسهولة يمكن أن يستنشق الزائر عبق التاريخ، ويشاهد صورا من عصور مضت تبدو ملامح منها لا تزال باقية، تاركة أثرًا خلفها يُعلن عن حضورها في قلوب عشاق جمع كل ما يمتّ بعلاقة لها.

سوق “ديانا” ليس مكانًا لشراء المقتنيات القديمة فقط، بل منطقة يمكن أن يستمع فيها البعض إلى حكايات لبشر غادروا الحياة، اختزلت عند بعضهم في صورة شخصية، أو غرامافون تتسلل منه أغنية لـ”أم كلثوم، أو شريط كاسيت يحوي أغاني للمطرب عبدالحليم حافظ. وبين الأشياء على الرصيف قد تجد ألبوم العائلة باعه أحفاد بثمن بخس، وأدوات مائدة فضية كانت حاضرة في زمن ما على موائد عامرة، يمكن منها معرفة بعض أسرار العائلات.

عند لمس قطعة قديمة تستدعي روح من يلمسها فيضانا من المشاعر المختلطة، تجمع بين التأثر بحياة أصحابها ممن رحلوا، وبين الرغبة الجامحة في الاقتناء، لأنها تذكر بشيء يلمس القلب، فربما عايش فيها ذكرى حزينة أو سعيدة.

حكاية سوق

سُمّي سوق “ديانا” بهذا الاسم، لأنه بجوار “سينما ديانا” في منطقة وسط القاهرة، ويقام كل يوم سبت بشارعي عمادالدين والألفي بك، المتقاطعين مع شارعي بستان الدكة وسرايا الأزبكية، وعلى جانبي الشوارع يقف بائعو المقتنيات خلف مناضد مكتظة بالتحف واللوحات والكتب، ويعود بعضها إلى بداية القرن الماضي.

وتخصص البعض في بيع نوع بعينه، مثل طوابع البريد والعملات وألبومات الصور والساعات، أو التحف والأنتيكات المعدنية من النحاس والبرونز.. وغيرها، فيما فضل آخرون أن يتاجرون في كل الأنواع.

على رصيف السوق قد تجد ألبوم العائلة باعه أحفاد بثمن بخس يمكن منه معرفة بعض أسرار العائلات

قال محمد الطيب لـ”العرب”إنه بدأ في جمع المقتنيات التي تعود إلى ما قبل عقد الخمسينات من القرن الماضي، منذ حوالي 28 عامًا، كعاشق وهاو وليس تاجرًا، وجمع عددًا كبيرًا من العملات النقدية المصرية والعربية والغربية، ثم اتجه إلى جمع الأنتيكات والتحف، وأنفق مبالغ كبيرة على هذه الهواية التي وصف نفسه بأنه أصبح”مدمنًا” لها، لأنه باع مقتنيات عائلته من الذهب.

وبعد أن امتلك الطيب الكثير من المقتنيات، قرر خوض تجربة التجارة فيها، ويقوم بالبيع للهواة من أمثاله، وخسر أموالًا طائلة، إذ لم تكن لديه خبرة التاجر الذي يريد أن يربح، وتحول إلى ضحية للكثير من عمليات النصب، وكان البعض يبيعونه مقتنيات بلا قيمة وبأسعار مرتفعة، إلى أن نصحه أصحاب الخبرة في المجال وتعلّم منهم.

وأوضح محمد الطيب، والذي كان يعمل موظفًا حكوميًا، أنه انضم إلى مجموعة من التجار، عددهم لا يتعدى 12 شخصا، ومدوا له يد العون، واكتسب منهم الخبرة، وعرف المناطق التي يشتري منها المقتنيات، مثل المزادات وبائعي “الروبابيكيا” أي الأشياء القديمة، وهناك من يأتي لأجل أن يبيع مقتنيات أسرته بنفسه.

تعرف الطيب على شخصيات مرموقة من هذا المجال، جاؤوا لشراء أنتيكات، ويقول إن أذواق المشترين اختلفت الآن، وأرخت الحالة الاقتصادية بظلالها على هذه التجارة، وتراجع البيع كثيرًا، وهناك من كان يقوم بالشراء أصبح يبيع مقتنياته التي جمعها على مر سنوات، بسبب حاجته الكبيرة إلى المال.

ولفت إلى أن دخول عناصر جديدة من بائعي المتحف إلى سوق “ديانا”، تسبب في أزمة كبيرة، لأنهم يبيعون مقتنيات مغشوشة أو حديثة، ولا تمت إلى المقتنيات القديمة بصلة.

انقلاب في التجارة

وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في انتشار سوق "ديانا"، وجذب إليه الكثير من المحبين لثقافة الاقتناء من مصريين وغيرهم

على منضدة متوسطة الحجم، يعرض “عم زيزو” كما يُطلقون عليه في سوق ديانا مقتنياته، ولا يختلف أمره عن محمد الطيب كثيرًا، حيث بدأ مقتنيًا للأشياء القديمة ثم تاجرًا، وبعد أن أحيل إلى المعاش، أصبح لديه وقت غير مستغل، فقرر أن يتخصص في بيع العملات المعدنية القديمة والطوابع البريدية، ويملك صورا شخصية تعود إلى عهود قديمة.

ولفت “عم زيزو” في حديثه مع “العرب” إلى أحد كروت “البوستال” ثلاثية الأبعاد، وصورة شاب وشابة على ظهر مركب في وسط البحر في لحظة رومانسية، وفي خلفية الكارت مكتوب عبارة باللغة العربية الفصحى وبخط منمق: “إلى الأخ كمال..أتمنى لك حياة زوجية سعيدة عطرها الجمال وغذاؤها الحب والاستقرار” وممهورة بتوقيع أخوك ياسين أبوزيد بتاريخ 8/11/1978، أي مر على هذا الكارت نحو نصف قرن، وسعره حوالي 25 سنتا أميركيا.

أما الصور الشخصية فتجذب من يراها وقد تأخذه إلى عالمها، سواء أكانت فُرادى أو داخل ألبومات عائلية، فهذه صورة لرجل يقف على الشاطئ يرتدي ملابس البحر حاملًا بين يديه طفلًا رضيعًا، ربما كان ابنه أو حفيده، يعود تاريخها إلى الخمسينات من القرن الماضي، وتلك صورة زفاف لعروسين في فترة الأربعينات من القرن الماضي، وينسج الخيال معها قصصًا عدة حولها، ويطرح العقل تساؤلات، من نوعية: أين هؤلاء الآن، وهل عاشوا حياة سعيدة، وهل لازالوا على قيد الحياة أم رحلوا تاركين تلك الصور القديمة التي خلدت ذكرياتهم، وتُباع لمن لا يعرفونهم. والسؤال هنا: من ذاك الذي استطاع أن يبيع جزءا من تاريخ عائلته ببساطة؟

أكد “عم زيزو” أن هناك من يهوى شراء واقتناء الصور الشخصية، ويحب الاحتفاظ بها، حيث تمثل تاريخا لأشخاص لا يعرفهم، لكن ربما يألفهم، لأنهم يذكروه بعائلته التي كان يتمناها، أو أسرته التي فقدها ولم يبق من ذكراها شيء.

وأشار لـ”العرب” إلى وجود أحفاد يتخلصون من مقتنيات أجدادهم، منها صور شخصية، يبيعونها إلى تجار “الروبابيكيا” أو في مزادات، أو يأتون بأنفسهم إلى سوق “ديانا” ويبيعونها للتجار.

خلف ألبوم الذكريات

كنوز الساعات الكلاسيكية
كنوز الساعات الكلاسيكية

وقفت نهال عطا، تتصفح أحد الألبومات القديمة بتركيز شديد، وسألتها “العرب” ماذا ستفعل به، فردت أنها تعمل في مجال تصميم الأزياء، ولفت انتباهها أزياء الناس في حقب زمنية سابقة، وتقوم بتحليل تفاصيل الصور، وهي تستعد لطرح كتابها الأول عن هذه الصور.

وقالت منذ طفولتي، كنت أحب جمع الطوابع والعملات المعدنية (مثل والدها)، لكن اكتشفت حبها للتابلوهات، خصوصًا التي يُرسم فيها أشخاص، ثم تطور الأمر معها وأصبحت تحب اقتناء الصور الشخصية، ووجدت غايتها في سوق “ديانا”.

بالتجوال في سوق “ديانا”، وقع نظر محررة “العرب” على “عم طاهر”السبعيني، ويرتدي جلبابا أبيض، ويجلس خلف منضدة، يقوم بوضع أنواع مختلفة من ساعات اليد القديمة، المختلفة في علاماتها التجارية العالمية وأبرزهاTissot ، Hamilton، Omega، Waltham، وتتنوع بين الرجالي والنسائي، وكان لافتًا وجود عدد كبير من ساعات الجيب، وتلك ذات السلسلة المتدلية، والتي ظهرت في بدايات القرن السادس عشر، ثم تطورت على مر العصور وباتت موضة قديمة.

أوضح “عم طاهر” في حديثه لـ”العرب” أنه يعمل في هذه المهنة منذ حوالي 65 عامًا، وورثها عن أبيه، وكان يعمل في تجارة الساعات، وامتلك خبرة طويلة في معرفة كافة أنواع الساعات، ثم تملكته هواية جمع الساعات واقتناء القديم والحديث منها، وعندما استحوذ على مجموعة كبيرة منها، قررت أن يتاجر فيها.

ويقتني “عم طاهر” ساعات تعود إلى حقبة العشرينات من القرن الماضي، وقام بشرائها من الأبناء والأحفاد الذين ورثوها عمّن رحلوا عن الدنيا من ذويهم، وكانوا يهوون اقتناء الساعات الأنيقة والراقية، لكن الأحفاد لم يقدّروا قيمتها وقرّروا بيعها.

وأكد أن ذائقة الذين يشترون الساعات القديمة اختلفت الآن عن ذي قبل، فالزبون اليوم لا يعرف قيمة ما يشتريه، ويريد أن يدفع ثمنا بخسا، بزعم أنه قديم وليست له قيمة، ما يعني أنه ليس مقتنيا أصيلا، فهو دخيل ويريد التظاهر باقتناء أشياء قديمة.

تتباين أسعار الساعات القديمة التي يبيعها “عم طاهر”، حسب علامتها التجارية ومتانتها، فهناك ساعات تعمل، لكن بها عيوب خفية يمكن إصلاحها أو لا يمكن، وهنا يختلف السعر وفقا تقييم حالتها، وتتراوح الأسعار في العموم، بين عشرة دولارات وثلاثين دولارًا، وتوجد أنواع نادرة يصل سعرها إلى ألف دولار أميركي.

أحجار وصخور

عبق التاريخ تحت غبار السوق
عبق التاريخ تحت غبار السوق

تبدو منضدة أبوآدم، الذي تخصص في بيع الأحجار والصخور الصغيرة المختلفة في ألوانها وأحجامها وأشكالها، لافتة للنظر، إذ توجد أحجار سوداء بها نتوءات حادة، وصفها بأنها “بركانية”، وأخرى أحجار “نيزك” سقط على الأرض وتفتت.

عن مشواره مع هذه التجارة، قال لـ”العرب” إنه عمل مرشدًا في سياحة الجولف، وهي سياحة متخصصة يسافر السياح أفرادًا أو جماعات لزيارة أماكن بعينها لممارستها، ومصر من البلاد الجاذبة للسائحين الراغبين في هذا النوع.

وأكد أن بعض السائحين كانوا يجمعون الأحجار والصخور التي تقع أعينهم عليها، وكان يشاركهم، ومع الوقت اقتني مجموعة كبيرة منها، وعرف كل المعلومات عنها، وأصبح همه الشاغل هو جمع الأحجار والصخور، ثم أشار عليه أصدقاء بعرضها للبيع في سوق “ديانا”، ووجد إقبالا عليها، وأكثر من يشترونها الأوروبيون ثم العرب ثم المصريون، ويتراوح سعر الحجر الواحد منها بين دولار وثلاث دولارات.

وعلى نقطة مميزة أعلى رصيف شارع عمادالدين، تقريبًا في منتصف السوق، تميزت منضدة بمعروضاتها المشغولة من النحاس والبرونز، وعليها تماثيل فرعونية في محاكاة للأصلية، تصلح لوضعها على مكتب أنيق، وبجوارها تماثيل حيوانات مختلفة.

هذه المنضدة مسؤول عنها الشاب أحمد سلامة، أحد باعة الأنتيكات والتحف، مع صديقه مصطفى، وورثها الأول عن والده الذي مارسها نحو 40 عامًا إلى أن توفي، وكان عاشقًا لجمع المشغولات النحاسية والبرونزية، منها أدوات تُستخدم الآن كأدوات مائدة، وأخرى انقرضت لكنه جمعها، مثل “أنجر الفتة” وهو إناء مميز للطعام استخدم قديمًا، ولا يعرفه الكثيرون حاليا.

Thumbnail

وقال سلامة لـ”العرب” إنه يظل مكانا ممتلئًا بالمقتنيات والتحف، ولفتت نظره وهو طفل “صنية” مشغولة من النحاس، عليها نقوش إسلامية بديعة لآيات من القرآن الكريم، ولازال يحتفظ بها، وقد أسرته بجمالها.

ومن هذه اللحظة أصبح مدمنًا لاقتناء الأشياء القديمة، وقرر دخول هذا المجال، وبدأ يشتري قطعا من والده، الذي منحه من خبرته الكثير، والتفرقة بين الأنتيكات الأصلية من المزيفة، وساعده ذلك بعد الانتهاء من دراسته في مجال الرسم والألوان، ورؤية المقتنيات بعين فنية.

وأشار لـ”العرب” إلى أن البائع الغاوي لجمع المقتنيات قبل أن يكون تاجرًا هو الأفضل من البائع الذي اتخذ من هذه المهنة وسيلة للربح، وليس متذوقًا ولا تقع عيناه على القطع الفنية المميزة ولا يستطيع تقدير قيمتها التاريخية، ويتعامل مع القطعة على أنها سلعة، مثل أيّ سلعة استهلاكية.

اللافت للنظر في سوق “ديانا” أن السيدات أقل إقبالًا على اقتناء الأشياء الثمينة من الرجال، فالرجل ليست لديه قدرة للسيطرة على مشاعره في اقتناء الأشياء ويدفع بسخاء، و أغلب الأكسسورات النسائية من المقتنيات يقتنيها رجال.

وأسهمت وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير في انتشار سوق “ديانا”، وجذب إليه الكثير من المحبين لثقافة الاقتناء من مصريين وغيرهم، وظهرت مجموعات على فيسبوك تتاجر في المقتنيات القديمة، ما أثّر على حركة البيع في السوق سلبًا.

16