القضية الفلسطينية بين المتغيرات الإقليمية والحاجة إلى رؤية جديدة

قد يكون مستقبل القضية الفلسطينية مرهوناً ليس بالإرث الرمزي، بل بميزان النفوذ الفعلي. وقد تكون القوى التي اتُهمت سابقاً بالتخلي عن القضية هي الأقدر اليوم على تحقيق مكاسب ملموسة.
الخميس 2025/06/05
ما ينتظرنا يتطلب أكثر من شعارات

تتواصل الحرب في غزة بفظائعها المستمرة، من دون أن تلوح في الأفق أيّ بوادر لوقف إطلاق النار رغم الجولات المتقطعة من التفاوض. عشرات الآلاف قتلوا أو شُرّدوا، ومع ذلك، فإن ما كان ذات يوم محوراً رئيسياً في التغطية الإعلامية العالمية بدأ يتراجع إلى هوامش الوعي العام حيث أن نشرات الأخبار المتخمة، وتدفق المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي أضعفا الحس الجماعي، وما كان يثير السخط والاستنفار بات اليوم يجهد لجذب الانتباه، بعدما طغت عليه أزمات العالم المتتالية. هكذا، تجد غزة نفسها ضحيّة للتهميش.

لكن تراجع الاهتمام لا يعكس فقط فتوراً إعلامياً، بل يكشف تحولات أعمق في المشهد السياسي والتقني العالمي. فالعالم يعيش مرحلة من تبدلات إقليمية متسارعة، وانتشارا متصاعدا للمنصات الرقمية، وجمهورا بات أكثر شكاً وتفتتاً من أي وقت مضى. صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي لا تزال أداة حشد فعّالة، لكنها من دون عمق أو إستراتيجية، قد تُفرغ المعاناة الحقيقية من مضمونها، وتحوّلها إلى ضجيج عابر. وفي حالة غزة، فإن تداول صور الفظائع على نحو متكرر ومنفصل عن السياق، لم يؤدِ إلى تعبئة فعّالة، بل إلى تطبيع الوجع والتبلّد.

اليوم، تغيّر تقريبا كلّ شيء ولم تعد الكلمة العليا لأولئك الذين يطرحون الأيديولوجيا، بل لمن يبتكرون الحلول. وحدها الدول التي تطوّر أدواتها، وتواكب التحولات الجيوسياسية، وتستثمر في العلم والتكنولوجيا والتنمية، هي من باتت ترسم ملامح السرد العالمي. إسرائيل سعت بجهد لتصوير نفسها كدولة حديثة ومتطورة، لكن هذا الخطاب لا يستطيع إخفاء حقيقة ما يجري على الأرض: ما يحدث في غزة هو إبادة جماعية، لا لبس في نواياها وأبعادها، وإن تم تغليفها بمصطلحات الأمن والدقة.

ما ينتظرنا سيتطلب أكثر من التضامن؛ سيحتاج إلى سياسة قائمة على الواقعية والعزيمة، ودبلوماسية تفضّل التأثير الفعلي على الاستعراض، وتبحث عن النتائج لا الرموز

في المقابل، لا تزال حركات مثل حماس أسيرة لنماذج كفاح وُلدت في القرن العشرين، ولم تعد توفّر رؤية عملية نحو التقدم أو الازدهار أو السلام. خطابها يراوح ضمن مفردات “المقاومة المسلحة”، وهي مفردات تبدو يوماً بعد يوم أكثر انفصالاً عن تعقيدات الواقع الإقليمي.

في هذا السياق الجديد، لم يعد ممكناً الاكتفاء بالشعارات أو المواقف الأخلاقية. المطلوب هو التفكير الجاد: كيف يمكن أن تتجسد مقاومة فاعلة في عصر الذكاء الاصطناعي والمراقبة الدقيقة والتحالفات المتغيرة؟ هل لا تزال وسائل الكفاح التقليدية صالحة؟ أم أن الوقت قد حان لصياغة إستراتيجية براغماتية، تُركّز على الحلول الممكنة، وترتقي بالتعليم والتنمية، وتستخدم أدوات الحكم الرشيد والدبلوماسية الواقعية في خدمة التحرير؟

لا تزال القضية الفلسطينية تمتلك زخماً عاطفياً في الشارع العربي، وتُستحضر في الخطب والمظاهرات والمناسبات الرسمية. لكن وراء هذا الزخم غالباً ما تكمن حسابات أخرى فمثلا إيران وتركيا وقطر ترفع الصوت دفاعاً عن حقوق الفلسطينيين، لكنّ ممارساتها، كدول تركّز حصرا على مصالحها المباشرة، تعكس أولويات متباينة. ولنقلها صراحة: لقد تحوّلت المعاناة الفلسطينية في بعض الأوساط إلى أداة للمزايدة الجيوسياسية، تُستثمر كرمز أكثر ممّا تُعالج كقضية.

فإيران، مثلاً، تقدم نفسها راعيةً لمحور “المقاومة”، وتدعم علناً حماس والجهاد الإسلامي. المرشد الأعلى علي خامنئي وصف حرب إسرائيل على غزة بالإبادة الجماعية، ودعا إلى وحدة المسلمين لمواجهة “السرطان الصهيوني” بحسب تعبيره. لكن خلف هذه الشعارات تكمن حسابات دقيقة: فإيران تتجنب أيّ مواجهة مباشرة مع إسرائيل، وتكتفي باستعراض القوة في المناسبات. ويبدو من الواضح أنّ الزيارة الأخيرة لوزير خارجيتها إلى القاهرة لم تحمل دعمًا فعليًا للفلسطينيين، بقدر ما هدفت إلى تعزيز موقع إيران التفاوضي في ملفات كبرى كالاتفاق النووي.

تركيا، بدورها، تبنت خطاباً تصعيدياً، إذ وصف الرئيس رجب طيب أردوغان ما تقوم به إسرائيل بأنه جريمة ضد الإنسانية، وعبّر عن دعمه لحماس. وفي 13 نوفمبر 2024، أعلن أردوغان قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، احتجاجاً على استمرار الحرب في غزة. ومع ذلك، فإن هذا التحول جاء بعد شهور من المماطلة، ويعكس توظيفاً سياسياً للقضية أكثر من كونه تحولاً مبدئياً. فعلى مدى سنوات، بقيت القنوات التجارية والدبلوماسية مفتوحة، رغم التوترات المتكررة. وموقف أنقرة اليوم لا يمكن فصله عن حساباتها الداخلية والخارجية، ورغبتها في الحفاظ على نفوذ إقليمي في مواجهة صعود قوى أخرى.

صحيح أن اتفاقيات أبراهام أثارت غضباً واسعاً، كونها تجاهلت الحقوق الفلسطينية، لكن الدبلوماسية التي تلتها أوجدت مسارات ضغط جديدة

أما قطر، فقد لعبت دور الوسيط بين حماس والمجتمع الدولي، وساهمت في اتفاقات التهدئة وتقديم المساعدات. لكن هذا الدور بات مشوباً برغبة في تعزيز مكانتها الدبلوماسية، خصوصاً في ظل صعود الرياض وأبوظبي. وقد أدى غياب شخصية مثل خالد مشعل، الذي شكّل جسراً بين حماس وقطر، إلى تراجع التأثير القطري. وتبدو الدوحة اليوم، وإن استمرت في دعمها الإنساني، أكثر انخراطاً في إدارة التوازنات الإقليمية من سعيها لتوحيد الصف الفلسطيني.

حتى رموز اليسار العربي التقليدي، الذين طالما رفعوا راية النضال المناهض للاستعمار، باتوا يفتقرون إلى البوصلة. فالكثير من الحركات اليسارية والقومية تعيش اليوم على رصيد الماضي، من دون أن تقدّم رؤية مستقبلية فاعلة.

وفي سوريا تحديداً، كان الفارق صارخاً بين الخطاب والممارسة. نظام الأسد، في عهد الأب والابن، استخدم القضية الفلسطينية كأداة لتبرير سلطته، واحتضن الفصائل واستخدم شعارات “الممانعة”، دون أن يقدم للفلسطينيين سوى الرموز. لكن هذه المسرحية انهارت. ومع تفاقم الأزمة الداخلية للنظام وتوالي الضربات الإسرائيلية، التزم بشار قبل سقوط حكمه صمتاً شبه كامل إزاء الحرب على غزة. واليوم، في عهد الرئيس أحمد الشرع، توحي بعض المؤشرات الدبلوماسية بتوجه نحو التهدئة، وربما المصالحة مع إسرائيل، ما يُشكل نهاية فعلية لعقود من “الممانعة” الرمزية.

في مقابل ذلك، تحوّلت مظاهر التضامن الثقافي مع فلسطين – من الدبكة إلى الكوفية والمطابخ الخيرية – إلى بديل عن العمل السياسي المنظم. وهكذا، جرى تجميل القضية وتغليفها بمظاهر جمالية، على حساب الالتزام الإستراتيجي الحقيقي.

في الغرب، برز جيل جديد من الناشطين المتضامنين مع فلسطين، أظهر حماساً لكنه ارتكب أخطاء. فبعد هجوم حماس في 7 أكتوبر، ترددت بعض المجموعات الطلابية في إدانة استهداف المدنيين، ما أضعف موقفها الأخلاقي. وشعارات مثل “من النهر إلى البحر” أثارت جدلاً حاداً حول معناها ودلالاتها. أما أساليب أخرى مثل قطع الطرق أو الاحتجاجات في المتاحف، فنجحت في لفت الانتباه لكنها لم تحصد التعاطف دائماً. الأخطر هو رفض بعض الأصوات توجيه أيّ نقد لحماس، واعتبار أيّ ملاحظة بمثابة خيانة. والمشكل هنا هو أنّ التضامن الحقيقي لا يقوم إلا على اتساق أخلاقي كامل.

كلّ ما سبق، يبيّن نوعا من المفارقة التي ربّما علينا أخذها بعين الاعتبار رغم الفوضى العاطفيّة التي يعيشها كلّ منّا كمواطن عربيّ، غيور على القضيّة الفلسطينيّة: أوراق الضغط الأكثر تأثيراً على سلوك إسرائيل باتت اليوم بيد الدول العربية التي انتهجت سياسة عقلانية وبراغماتية، رغم تعرضها للانتقاد بسبب ردود فعلها التي تبدو أحيانا غير شافية لغليلنا جميعا.

صحيح أن اتفاقيات أبراهام أثارت غضباً واسعاً، كونها تجاهلت الحقوق الفلسطينية، لكن الدبلوماسية التي تلتها أوجدت مسارات ضغط جديدة. فالإمارات، مثلاً، استخدمت علاقاتها للضغط من أجل فتح ممرات إنسانية وتقديم مساعدات ميدانية، والتأثير في القرارات الإسرائيلية من خلال قنوات مباشرة.

دول كإيران وتركيا وقطر ترفع الصوت دفاعاً عن حقوق الفلسطينيين، لكنّ ممارساتها، كدول تركّز حصرا على مصالحها المباشرة، تعكس أولويات متباينة

في المحافل الدولية، شددت الإمارات على ضرورة ربط أيّ انخراط إقليمي بإحراز تقدم فعلي نحو الدولة الفلسطينية، مؤكدة أن التطبيع ليس تفويضًا مفتوحًا. كما ساهمت في بلورة خطاب عربي واقعي يعكس تحولًا من الشعارات إلى الدبلوماسية المشروطة، ويُعيد تموضع القضية الفلسطينية داخل إستراتيجية إقليمية جديدة تعتمد على التأثير الهادئ لا الضجيج، وعلى النتائج لا الرمزية.

أما السعودية، ورغم بقائها خارج إطار الاتفاقيات، فقد باتت شروطها واضحة: لا تطبيع من دون تقدم حقيقي نحو الدولة الفلسطينية. وهذا الموقف أعاد رسم المشهد الدبلوماسي في المنطقة، الذي بات أكثر ميلاً إلى البراغماتية السعودية، وأقل انقياداً وراء الشعارات.

قرار إسرائيل مؤخراً بمنع زيارة مقررة لوزراء خارجية من اللجنة العربية – الإسلامية سداسية الأطراف قد يبدو إجراءً إدارياً، لكنه يعكس قلقاً أعمق: هناك نظام إقليمي جديد تتشكل ملامحه بهدوء، تقوده الرياض. فالمملكة تعمل على بناء تحالف واسع من العواصم العربية والأوروبية للدفع نحو الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، وإحياء حل الدولتين الذي اعتبره الكثيرون طي النسيان.

هذا التحول ليس رمزياً فقط، بل هو عملية إعادة تموضع إستراتيجي، تهدف إلى استبدال المزايدات اللفظية والممانعة الشكلية بمسارات دبلوماسية شرعية، متعدّدة الأطراف، تعتمد على النفوذ الهادئ لا على الاستعراض.

ورغم محاولات إسرائيل تعطيل هذه الديناميكية فإن الزخم لا يزال في تصاعد. فالمقاربة السعودية، القائمة على البراغماتية والصبر الإستراتيجي، تُعيد تعريف الممكن، وتفرض تحدياً مزدوجاً: على إسرائيل التي اعتادت الإفلات من المحاسبة، وعلى تيارات التشدد العقائدي من مختلف الأطراف.

في النهاية، قد يكون مستقبل القضية الفلسطينية مرهوناً ليس بالإرث الرمزي، بل بميزان النفوذ الفعلي. وقد تكون القوى التي اتُهمت سابقاً بالتخلي عن القضية، هي الأقدر اليوم على تحقيق مكاسب ملموسة، لا عبر المقاطعة أو الشعارات، بل من خلال تراكم الإنجازات والرهان على الحلول الواقعية.

ما ينتظرنا سيتطلب أكثر من التضامن؛ سيحتاج إلى سياسة قائمة على الواقعية والعزيمة، ودبلوماسية تفضّل التأثير الفعلي على الاستعراض، وتبحث عن النتائج لا الرموز. وفي هذا المشهد المتبدل، قد تأتي العدالة لفلسطين لا من الأصوات الأعلى صخباً، بل من العمل الدؤوب الهادئ، الذي يعيد صياغة قواعد اللعبة.

9