الصانع الماهر ما يزال صداه في هامرسميث

ليست الجغرافيا والمكان وحدهما منفصلان عن الوعي والذات، بل هما تتكاملان مع الإنسان، امتداد تفاعلي غريب أنك عندما تمر بمكان سوف تتذكّر إنسانا، وهنا في منطقة هامرسميث وما حولها حيث تتوزع البنايات ومواقف الحافلات وقطارات الإنفاق والمقاهي.
لكن على مرمى حجر يلوح المبنى رقم 177 حيث كان يجلس هناك الصانع الماهر.
كان لقاؤنا الأول وجها لوجه في العام 2014 ثم 2017 ثم صرت أراه بشكل شبه يومي.
ومن هناك ابتدأت الحكاية، فلم يكن هيثم الزبيدي مديرا ولا صاحب امتياز بل كان بالدرجة الأولى مشاركا في صناعة المنجز.
كان كأنه واحد من الفريق، وفي يوم ما وأنا جالس في مكتبه وللحديث شجون، قال لي، لو كانت عندك سيارة جميلة وحديثة وتعتز بها لن تسمح أن تنال منها الشروخ أو التجريح في بدنها بآلة حادة.
لهذا نحن نكتب مادة صحفية نعتز بها لكننا نتغاضى عن مكمّلات تصنع الجودة وهذه المكمّلات إذا أهملناها تصبح مثل تلك الخطوط والجروح التي تظهر على بدن سيارة حديثة فتشوهها.
كانت الجودة مقياسا يتوصل إليه بنظرة ثاقبة ولهذا استمر ذلك المعيار في كل يوم وكل أسبوع وشهر وعام ذلك أن صحيفة “العرب” و”ميدل إيست أونلاين” لم يعرفا استراحة ولا عطلة عدا أيام الأعياد الدينية احتراما للقراء والمحررين على السواء.
◄ الصانع الماهر من كثر ما عاشت معه "العرب" وعاش معها وتغلغلت رسالتها في وجدانه وعمق ذاته كانت أيّ أزمة تمر بها أو مرّت بها بعد جائحة كورونا تترك أثرا في نفسه
كان الصانع الماهر هيثم قد رسّخ قوة صحيفة صارت لها تقاليدها، فريق عمل مثابر في تونس يكمل فريقا في لندن ومراسلون وكتّاب من العديد من بلدان العالم وكان هو لا يهدأ في رحلة العمل لا في ليل ولا نهار.
كنا نتحدث عن سينما الخيال العلمي كلما شاهد مقالا جديدا لي وحيث كانت “العرب” أول صحيفة عربية سلطت الضوء على هذا النوع الفيلمي المرتبط بالأزمنة الحديثة وواصلت الكتابة في هذا الحقل طيلة أربعة أعوام تحت إشرافه واهتمامه، وكان هو يبدي سعادته بتلك الاستمرارية.
الصانع الماهر كان وجوده حيّا بالنسبة إليّ حتى بعد أزمة كورونا وما تلاها وإغلاق مكاتبنا في هامرسميث لكنّ حنينا جارفا كان يشدني للمكان.
ولم أكن أستطيع أن أستوعب هامرسميث ولا مقترباتها ما لم تكن مقترنة ببيتنا الجميل في البناية رقم 177 .
ولم أكن أستوعب وجود تلك البناية البرتقالية المحمرة مثل قرص شمس حزين من دون وجود الصانع الماهر فيها.
ضحكته المجلجلة، النكات التي يحب سماعها، جولته قبيل ساعة أو نحو ذلك قبل انتهاء العمل وهو يقول عندما أشعر بالجوع سوف آتي إلى طاهر وكنت أناوله قطعة بسكويت ويوم كنت أهيّئ الشاي بنفسي لعدم رغبتي في ليبتون ومشتقاتها وكان يشاركني استكان الشاي متلذذا مع باقي الزملاء في مكتب لندن.
الصانع الماهر كان يطلق للثقافة، وقد تسوّرت بالعالم الرقمي والذكاء الاصطناعي، عالمها الفسيح ولهذا كان منفتحا على ما ننتجه ما يجعل المادة الصحفية مواكبة لزمنها، تلك كانت رؤيته وفلسفته.
الصانع الماهر من كثر ما عاشت معه “العرب” وعاش معها وتغلغلت رسالتها في وجدانه وعمق ذاته كانت أيّ أزمة تمر بها أو مرّت بها بعد جائحة كورونا تترك أثرا في نفسه ولم أكن أتمنى إلا أن أراه متخففا من حملها ومن ذلك النوع من الأسى كلما اتصلت به إلى ما قبل شهر من رحيله المفاجئ.
ها أنا أقف أمامك وفي يدي قبضة تراب لم أكن أتمنى يوما أبدا أن أهيلها على قبرك، تمنيتك عائدا بحيويتك المعتادة وإنسانيتك الفريدة، لكنك أيها الصانع الماهر ترجّلت عن جواد رحلتك تاركا لنا نحن محبّيك وخلصاءك ذكراك وأصداء وجودك وكل خصالك التي تبقى حيّة في القلب والضمير.