الولايات المتحدة تبحث عن شركاء أقوياء

العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة لم تكن عبر التاريخ مجرد علاقة تحالف، بل كانت دائما علاقة تشاركية، رغم التوترات التي مرت بها في بعض المحطات.
الجمعة 2025/05/23
السعودية ليست دولة ردود أفعال بل دولة مواقف

في ظل بحث الولايات المتحدة عن شركاء أقوياء، وليس مجرد حلفاء، اعتمد الرئيس الأميركي دونالد ترامب على المملكة العربية السعودية كشريك أكثر من اعتماده على أوروبا، إذ يرى في الاتحاد الأوروبي منافسا لأميركا أكثر من كونه شريكا لها. هذا التوجه نابع من إدراك ترامب للوزن الاقتصادي والسياسي للسعودية، حيث نجحت في رسم المشهد الإقليمي، بل وشاركت في تشكيل المشهد العالمي، بعد تصديها لنهج إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، ورغم محاولة الرئيس السابق جو بايدن مواكبة هذا النهج، إلا أنه سعى أيضا للتصالح مع الإستراتيجية السعودية، خصوصا في ظل تحولات عالمية كبرى.

تتلاقى الإستراتيجية السعودية مع نظيرتها الأميركية في التركيز على النمو والتنمية والاستثمار في المنطقة، خاصة بعد أن فرضت الحرب الروسية في أوكرانيا واقعا جيو-اقتصاديا جديدا، ما دفع إلى إيجاد الممر الهندي الأخضر لنقل الطاقة التقليدية والنظيفة من دول الخليج إلى أوروبا، إضافة إلى الحزام والطريق الصيني الذي لا يمكن تحقيقه إلا عبر تهدئة التوترات وتصفير المشكلات، وهو النهج الذي تبنته السعودية، لاسيما بعد نجاحها في التوصل إلى اتفاق تهدئة مع إيران برعاية بكين في مارس 2023، ما عزّز موقعها كفاعل إقليمي ودولي مؤثر.

◄ السعودية لم تعد تمر بمرحلة انتقالية، بل باتت تعيش مرحلة إثبات، حيث تتحدث إنجازاتها عن نفسها، مؤكدة أنها قوة صاعدة، وليست مجرد دولة نفطية، بل شريك عالمي في التنمية والاستقرار

لم تكن العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة عبر التاريخ مجرد علاقة تحالف، بل كانت دائما علاقة تشاركية، رغم التوترات التي مرت بها في بعض المحطات. لكن هذه العلاقة بقيت إستراتيجية ولم تتزعزع، مستندة إلى جذور تاريخية تعود إلى اللقاء الأول بين الملك عبدالعزيز والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت على متن الباخرة كوينسي عام 1945، عقب مؤتمر مالطا في نهاية الحرب العالمية الثانية. هذا اللقاء رسم معالم العلاقة السعودية – الأميركية المبنية على الشراكة والصداقة لا على التبعية، إذ ظلت حكمة ملوك السعودية عاملا رئيسيا في الحفاظ على هذه العلاقة الإستراتيجية الثابتة، بعيدا عن أيّ انفعالات ظرفية، خصوصا عندما لا تكون العلاقات بين البلدين على مستوى طموحات القيادة السعودية.

كان لافتا أن السعودية رفضت في عهد بايدن رفع إنتاج النفط لدعم الانتخابات الأميركية، حيث حرصت على عدم تسييس ملف النفط أو التدخل في الشؤون الداخلية للولايات المتحدة، محافظة بذلك على سياسة الحياد، وهو نهج ثابت تتّبعه في التعامل مع جميع الدول.

خلال زيارة ترامب الثانية إلى السعودية، كان المشهد مختلفا تماما عن زيارته الأولى التي ركزت على القضاء على الإرهاب وتمهيد الطريق نحو النمو والازدهار في المنطقة. في زيارته الثانية، لاحظ ترامب التطور الهائل في السعودية، حيث وجدها قد فرضت نفسها على المشهدين الإقليمي والعالمي، إذ حققت 83 في المئة من أهداف رؤية المملكة 2030، بل تجاوزت بعض الأهداف المستهدفة، ما دفعها إلى رفع سقف طموحاتها. كما انخفض اعتماد اقتصادها على عائدات النفط من 92 في المئة إلى 48 في المئة، في تحول كبير نحو التنوع الاقتصادي.

وازنت السعودية في علاقاتها الإستراتيجية بين جميع القوى العالمية، وأثبتت أنها شريك موثوق للولايات المتحدة في عدة ملفات دولية، أبرزها الملف الأوكراني، الهندي – الباكستاني، ومنصة جدة الخاصة بالملف السوداني. اقتنعت واشنطن بأن السعودية لا تمثل مصدر قلق لها، بل هي شريك موثوق، حيث تحولت الرياض إلى نموذج يحتذى به في إدارة الخلافات بعقلانية دبلوماسية، بعيدا عن التصعيد. أكثر من ذلك، تنتهج السعودية دبلوماسية الصبر والاحتواء والحنكة، وتمتلك قدرة على امتصاص الصدمات عند إدارة الخلافات الدولية.

رغم ذلك، لم تتنازل السعودية عن قيمها وهويتها، حيث أكدت أكثر من مرة أن القيم لا تفرض من الخارج ولا تختزل في خطاب سياسي، وهو ما شدد عليه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حين قال “من المهم معرفة أن لكل دولة قيما مختلفة ويجب احترامها،” مؤكدا بذلك أن السعودية ليست دولة ردود أفعال، بل دولة مواقف، تستمد رؤيتها من الرسالة الإسلامية التي انطلقت من هذه الأرض، وتعتز بهويتها العربية والإسلامية، وتبني سياساتها على احترام سيادتها وسيادة الدول الأخرى.

◄ الولايات المتحدة اقتنعت أن المملكة لا تمثل مصدر قلق لها بل هي شريك موثوق حيث تحولت السعودية إلى نموذج يحتذى به في إدارة الخلافات بعقلانية وحنكة دبلوماسية بعيدا عن التصعيد

تقود السعودية سفينة النمو والتنمية، وتسعى إلى تحويل المنطقة إلى أوروبا جديدة، دون استنساخ تجارب سابقة، بل من خلال نهج فريد يستشرف المستقبل، باعتبارها قلب العروبة ومنبع الإسلام. كما يؤمن وليّ العهد بأن العروبة شرفٌ، والإسلامُ عزٌ، وهو ما أكده في لقائه مع نائب الرئيس الفلسطيني حين قال “القضية الفلسطينية هي قضية السعودية، وقضية كل فرد من أفراد الشعب السعودي.” وقد تجلى هذا الموقف بوضوح بعد أحداث طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، حيث حمّلت السعودية إسرائيل المسؤولية، واستضافت مؤتمرات عربية وإسلامية، بينما جاب وزير الخارجية السعودي العالم، ليتمكن أخيرا من انتزاع موافقة 149 دولة على قيام دولة فلسطين، بهدف وقف الصراع والتوتر في المنطقة، والقضاء على الإرهاب الذي يتغذى على المأساة الفلسطينية.

وعندما رفع الرئيس ترامب العقوبات عن سوريا، أشار إلى أن قراره جاء استجابة لطلب الأمير محمد بن سلمان، معتبرا أنه فرصة للقيادة السورية لرفع المعاناة عن الشعب.

وعندما اعتلى ترامب منصة منتدى الاستثمار السعودي، الذي تم تنظيمه لجذب استثمارات أميركية، أدلى بشهادة غير مجاملة قائلا “السعودية الرائعة بُنيت بأيادٍ سعودية، وبثقافة عربية،” في دلالة واضحة على الفهم الأميركي لطبيعة العلاقة مع دولة كبرى تمضي قدما نحو المستقبل بخطى ثابتة.

كل هذه التطورات تؤكد أن الولايات المتحدة ستظل شريكا للسعودية، لثقتها في قدرتها على وضع نفسها على خارطة القوى العظمى، والتحول إلى قطب اقتصادي وصناعي عالمي. لم تعد السعودية تمر بمرحلة انتقالية، بل باتت تعيش مرحلة إثبات، حيث تتحدث إنجازاتها عن نفسها، مؤكدة أنها قوة صاعدة، وليست مجرد دولة نفطية، بل شريك عالمي في التنمية والاستقرار.

8