اللقاء الأخير مع هيثم الزبيدي

كل الأمور كانت تقول إن لقائي مع الدكتور هيثم الزبيدي رئيس تحرير “العرب” في تونس أوائل مايو الجاري هو اللقاء الأخير، بدءا من استعدادات السفر والحصول على تأشيرة من سفارة تونس بالقاهرة وحتى مقابلته والحديث معه في استراحته المطلة على منطقة البحيرة الأولى في تونس، فقد طلب مني منذ أشهر أن نلتقي في هذا البلد الذي يحبه وأهله، وتعاملت مع هذا الطلب بجدية حتى حصلت على التأشيرة بعد نحو ثلاثة أشهر، وطوال هذه المدة لم يسأل ماذا فعلت أو متى ستأتي إلى تونس، لأن متاعبه الصحية زادت في الفترة الأخيرة وحالت دون سفره من لندن إلى تونس.
في منتصف أبريل، عاد وسألني هل حصلت على تأشيرة تونس؟ قلت له لا، فأبلغني بأنه قرر زيارة مقر مؤسسة “العرب” في تونس بعد أيام قليلة، فتواصلت مع السفارة بالقاهرة وبعد ذلك أُبلغت بالموافقة، واتفقت مع الدكتور كما كنا نناديه في المؤسسة من كبيرها إلى صغيرها، فلا دكتور بها سوى هيثم الزبيدي، مضت الأمور بسهولة في السفر من القاهرة إلى تونس إلى أن رأيته وجها لوجه.
منذ عملي بجريدة “العرب” كمدير لمكتبها في القاهرة، وكاتب بها، قبل ثلاثة عشر عاما لم ألتق رئيس التحرير سوى أربع مرات، بين مصر وتونس والإمارات، وهذه هي المرة الخامسة والأخيرة في تونس.
كنت أعرف مرضه العضال الذي داهمه فجأة منذ خمس سنوات، لكنه أوصاني بعدم الحديث مع أحد عن طبيعة المرض وتطوراته الصحية، لأنه لا يستطيع تحمل نظرة شفقة أو عطف، وربما شماتة من أحد، وهو صاحب الكبرياء والكرم الحاتمي والقوة والأكثر خلقا وإنسانية مع كل من تعاملوا معه، فقد اعتاد أن يمنح ولا يُمنح، ويعطي ولا يُعطى، ويغدق ولا يُغدق عليه، واحتفظت بسر المرض، إلى أن رأيته في تونس مؤخرا، وبدت حالته متدهورة بشكل لم أتوقعه.

◄ مع ذلك كان قاسيا مهنيا وجادا ولا يساوم أو يفاوض ولا يقبل نفاقا أو مجاملة من أحد ويفرق بين الحرفية في العمل والإنسانيات خارجا، ويسعد عندما تجتمعان في شخص واحد
ولاحظ تأثري بأوجاعه الشديدة التي لا تنقطع طوال جلساتنا المتعددة في تونس، فأخبرني بأن ما يظهر عليّ من تأثر يؤلمه جدا، وكان حريصا على ألا يتألم أمام ضيوفه، لكن قسوة المرض كانت أكبر في أحيان كثيرة، لذلك أخفى الخبر عن غالبية من يعرفونه، وأراد الاحتفاظ بصورته الحيوية والنموذجية التي يعلمها كل من تعاملوا معه أو سمعوا عنه من قريبين إليه. كلمة نموذجية هنا ليست مبالغة، فقد كان هيثم الزبيدي نموذجا في كرمه وأخلاقه وعطائه الفكري والمهني، وعطوفا على كل من احتاج مساعدة، سواء عرفه مباشرة أم لا، إذ يكفي أن تخبره بالحاجة إلى مساعدة مالية لأحد من الصحافيين أو الصحافيات بالمؤسسة، وعبارته الأثيرة، كم المطلوب؟
مع ذلك، كان قاسيا مهنيا، وجادا ولا يساوم أو يفاوض، ولا يقبل نفاقا أو مجاملة من أحد، ويفرق بين الحرفية في العمل والإنسانيات خارجه، ويسعد عندما تجتمعان في شخص واحد، وتقييمه للعاملين والناس عموما يأخذ في الحسبان هذه المتلازمة، ولدينا في مكتب “العرب” بالقاهرة الكثير من القصص الدالة على عظمة العطاء الإنساني للزبيدي، وإذا عُرفت تفاصيلها ربما لا تصدق، وهي صفة جعلت كل من عملوا معه يكنون له احتراما فائقا، وجميعهم لم يروه، فتكفي مواقفه النبيلة لمعرفة شخصيته.
هناك حكايات متعددة دارت بيننا عبر دردشات على سكايب أو واتساب أو من خلال الهاتف، تؤكد أنه رئيس تحرير مسؤول بالمعنى الشامل للكلمة، امتلك مروحة واسعة، ثقافيا وفكريا وسياسيا واقتصاديا، وبالطبع تكنولوجيا، فهو تخرج في كلية الهندسة ونال درجة الدكتوراه فيها من بريطانيا، وهجر كل ذلك إلى صاحبة الجلالة (الصحافة)، والتي كسبت شخصا وكاتبا رائعا، صاحب مواهب مختلفة.
لا أريد الذهاب بعيدا عن قصة اللقاء الأخير في تونس، والذي كان الهدف منه الفضفضة معي عن مستقبل مؤسسة “العرب” من بعده، وهي فضفضة قاسية على أي شخص، لكن بالنسبة إلى هيثم الزبيدي هذا أمر طبيعي، فقد عرف حقيقة مرضه مبكرا، واقتنع بأن أجله اقترب، وكان يضحك معي أنه عاش أكثر مما يجب وصادق المرض، فقد توقع الأطباء أنه لن يتحمل أكثر من ستة أشهر، وعندما واصل الحياة معه لمدة أكثر من خمس سنوات، أخبره الأطباء بأن هذه معجزة. فكنت أضحك معه وأقول له أنت شجاع حتى في مواجهة مرضك.
اختفاء هيثم الزبيدي من مجموعات الدردشة مع مدراء التحرير والمحررين لا يعني أنه مريض، وظهوره بكثافة لا يعني أيضا أنه في أفضل حال، ففي إحدى المرات أخبرته بأنني أطمئن عليه من مناكفاته الكثيرة في العمل، فرد بأن هذه دليل على أنه مريض جدا، وقال إنه ينسى المرض بزيادة جرعة العمل، وليس العكس، وهذه واحدة من أسراره. فلم يتغيب عن كل مجموعات العمل (أون لاين) إلا نادرا، يوجه بمناقشة قضايا معينة، ويختار زوايا دقيقة وعميقة لموضوعات مهمة.
وقد عرفته أكثر عندما أضافني مؤخرا إلى مجموعة القيادة العامة، وتضم مدراء التحرير المسؤولين عن إدارة الجريدة واختيار موضوعات الصفحة الأولى بإتقان وجودة عالية، وهذه لها قصة طويلة من اسمها إلى طبيعة عملها، أختزلها لكم في أنها تعكس ذكاء ومهنية وأخلاقا ولطفا وخفة دم هيثم الزبيدي الذي لا يعرفه كثيرون، والتي أكدت أنه رحل وترك خلفه سيرة، إنسان نموذجي عن جدارة.
كان حديثه معي عن مستقبل “العرب” مزعجا لي، ومريحا له. مزعجا لأنني لم أتخيل المؤسسة من دونه، فبعد سنوات طويلة من التواصل والعمل والمناقشات معه يصعب تقبل غيابه، وهو ما كان يخشاه علينا، حيث كانت رغبته أن تواصل المؤسسة عملها كأنه لا يزال يعيش بيننا. وهو ما يمثل راحة له في الدنيا والآخرة، وبعد أن اشتد عليه المرض فكر في تأمين أحوال المؤسسة لتستمر بالشكل الذي كانت عليه وأفضل. وهذه أمنيته أو وصيته، التي لم يتخل عنها وهو في أصعب أوقات مرضه.
وقتها شعرت وأنا معه في تونس بدنو أجله، فلم يترك كبيرة أو صغيرة إلا وتحدث فيها معي وقريبين منه، فشغله الشاغل أو همّه بمعنى أدق كان مواصلة الطريق من بعده، وردد أمامي، وزملاء آخرين، أن من يحبه لا يتوانى في العمل، حتى تستمر “العرب” مزدهرة ولا تتوقف أبدا. ولذلك كان هذا هو اللقاء الأخير بأتمّ معنى الكلمة.