مَنْ يموت! هيثم الزبيدي وهندسة البقاء عبر الفكر

لم يكن رحيل الدكتور هيثم الزبيدي مجرد خبر عابر في جدول الأحداث، بل كان لحظة صمت ثقيلة، كأن الكلمات انسحبت من بين أصابعنا، ونحن نودّع رجلًا لم يكن صحافيًا فقط، بل حاملًا لرؤية، لعقل، ولمشروع ظل وفيًا له حتى أنفاسه الأخيرة.
عرفت الدكتور هيثم منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، لم نكن نلتقي كثيرًا، لكن التواصل لم ينقطع، في أبوظبي التقينا مرتين في سنوات النشاط والانشغال، ثم زارني مرتين في المستشفى بعد اشتداد المرض، جاء بصمت الكبار الذين لا يحتاجون إلى مقدمات ولا يتحدثون عن أفضالهم، لكنه في كل مرة كان يترك أثرًا من النوع الذي لا يُمحى.
كان وفيًا على نحو نادر، لا يبحث عن الضوء، لكنه يمنحه للآخرين، لم يتردد يومًا في الاستجابة لأي طلب يتعلّق بفتح الباب أمام كتّاب جدد، وكلما أرسلت إليه توصية جاءني الرد بالإيجاب: “تم التواصل، ومرحّب به/بها.” كان يرى في الكلمة مشروعًا جماعيًا، لا حكرًا على أسماء مكرّسة، ومن هنا كانت “العرب”، في عهده، منبرًا لكل من يمتلك فكرة، ولكل من كان لديه ما يقوله خارج الاصطفافات.
هيثم الزبيدي لم يكن مديرًا تقليديًا ولا رئيس تحرير يكتفي بإدارة العناوين، كان مثقفًا حقيقيًا، قارئًا متأملًا، ومؤمنًا بأن الصحافة ليست نقلًا للخبر بل تحرير للعقل، لم يكن يخشى من نشر الرأي المخالف، بل كان يرى في التعددية ركيزة للتنوير، لهذا كانت “العرب” مساحة فيها من الجرأة أكثر مما تحتمله الكثير من المنصات، وفيها من السقف المرتفع ما جعلها استثناءً في زمن الانكماش الإعلامي.

◄ راهن على بناء جيل جديد من الكتّاب العرب ولم يكن يتحدث عن أزمة محتوى فقط بل عن أزمة في المسارات وكان يرى أن الصحافة العربية لن تنهض ما لم تتحرر من تبعيتها
لكن أكثر ما كان يميّزه، في نظري، هو يقينه بأن مواجهة التطرف لا تكون بالشعارات، بل بالمعرفة، إن المعركة الحقيقية ليست فقط في السياسة، بل في الثقافة، في طريقة التفكير، وفي إنتاج خطاب بديل لا يقع في فخ العنف المضاد، ولا في التواطؤ مع الواقع.
في زمن سادت فيه النعرة، وتم الترويج فيه لصحافة الغرائز والانفعالات، اختار الدكتور هيثم الزبيدي طريقًا أكثر صعوبة، بنى هدوءًا مؤسسيًا، وأدار صراعاته من خلف ستار الصبر والعمل المتقن، لم يكن صداميًا، لكنه لم يكن مهادنًا أيضًا، كان يعرف متى يتدخل، ومتى يترك النص يتحدث.
أحيانًا كنا نختلف، في قضايا سياسية أو في أولويات النشر، لكنه لم يضع الخلاف سببًا للقطيعة، كان يتقن فن إدارة التباين، ويفصل بين الموقف وبين العلاقة، بين الفكرة وبين الشخص، وهذا، في عالم الصحافة، عملة نادرة.
عاش سنواته الأخيرة وهو يراهن على بناء جيل جديد من الكتّاب العرب، لم يكن يتحدث عن أزمة محتوى فقط، بل عن أزمة في المسارات، وكان يرى أن الصحافة العربية لن تنهض ما لم تتحرر من تبعيتها، لا فقط للمال السياسي، بل للكسل المعرفي أيضًا.
حين بلغني خبر وفاته شعرت بأنني فقدت ظهرًا أستند إليه حين تشتد الريح، لم يكن الراحل قريبًا بالمعنى اليومي، لكنه كان من تلك الشخصيات التي يكفي أن تعرف أنها موجودة لتطمئن.
من المؤسف أن كثيرين لم يعرفوا هيثم الزبيدي كما يجب، لأنه لم يكن من هواة الأضواء، ولا من الصاعدين على أكتاف الآخرين، اشتغل في الظل، وبنى في صمت، ورحل دون ضجيج. لكن من يعرفون، يدركون أي فراغ خلّفه.
في كل جيل صحفي، هناك من يكتب، وهناك من يصنع المساحات للكتابة، الدكتور هيثم كان من الصنف الثاني، من الذين يمنحون غيرهم فرصة أن يُسمع صوتهم، دون أن يشترطوا التماثل، أو الولاء.
له في عنقي امتنان، وفي قلبي حزن عميق.
وداعًا يا صديق العقلانية، وصاحب الرسالة التي لم تتورط يومًا في الغريزة ولا في الكراهية، وداعًا يا ابن الصحافة التي كانت تؤمن بأن الكلمة ضوء، لا سيف.
رحمك الله، وألهم محبيك وأهلك وتلامذتك الصبر والسكينة، سيذكرك من كتبوا بإذنك، ومن نشروا بفضلك، ومن آمنوا بأن الصحافة ما زالت قادرة على أن تكون بيتًا للفكرة.. لا منصة للصراخ.
ستبقى عدن تذكرك.. والمكلا تحفظ اسمك.. والجنوب يردّد دعاءه لك في كل سطر كُتب بفضلك.
فتحت نوافذ لم تكن تُفتح، ووقفت مع الكلمة حين عزّ من يقف، وآمنت بأن لكل شعب حقًّا في أن يقول: نحن هنا.
سيذكرك الجنوب كما يليق بالشرفاء.. وستبقى في ذاكرة العراق الذي أنجبك، رجلًا من طين النخيل، ونُبل المواقف، وصفاء الكلمة.