في الجزائر الانفعال سياسة دولة.. للأسف

تؤكِّد الأحداث في الجزائر أن الدَّوخة الإستراتيجية للدَّوْلة الجزائرية مُتوَاصلة وقد باتت أقرَب إلى الاستعصاء على الاستطباب.. دَوْخة لها عِدّة أسباب، أهمها اجتياز الدولة، لمرحلة تحوُّلٍ فيها هي قيْد التشكُّل نحوَ دولة جديدة، مُتخلِّصة من حرَسها القديم الذي يسعى إلى إغلاق كلِّ منافذ المستقبل.. له في الأروقة التقليدية للدولة، وبها، دِفء التحكُّم وعذوبة المَغانم.
الحرس القديم نَفَّر النُّخبةَ الجزائرية من الدَّولة؛ شَخصيات من قيادات حزب جبهة التحرير الوطني كان لها حضورٌ وفاعلية في الحركية السياسية الجزائرية غادرت الدولة والسياسة معًا. حزب الدولة تقلَّص إلى مُجرد جَيْب من جيوب حزبية (أكثرها فارغ) تستعمِلها الدّولة إعلاميا، بعد أن كان هو من يُوجِّه الدولة ويشكّلها. خلت الدولة لجنرالات الجيل الثاني، استأثروا بها، مُستفيدين من سُلطتها ويُحافظون على منافعهم منها بالتسلط.
“الحراك الشعبي” وسّع الهوّة بيْن الدولة والشعب الجزائري، وهو في الأصل صرخة ضد تسلُّط الدولة وهَبَّةُ لاستعادتها للمصلحة الوطنية الجزائرية. وبعد أن كان الحراك كتلةَ غضبٍ ضِدَّ التسلط المتخَفِّي وراء الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، الذي انتهى يدير الدولة من على كرسي متحرك وبأنابيب الإنعاش الطبية، هو اليوم حراك سائل في شرايين السياسة الجزائرية، والدال عليه الضمور الانتخابي لكل المؤسسات السياسية.
◄ المقلق في وضع العزلة الذي يضيق على الجزائر وتزايد النفور الدولي من سياساتها أن الدَّوْلَة هي التي تنتجه وتفتعله وموجهاتها الإستراتيجية يسكن فيها المغرب وحده
فقط، في الأسابيع الأخيرة أفصحت الدّولة عن ارتجاج في احتكاك “الصفائح” داخلَها. توجُّهان اشتبكا في العلن على خلفية التقلُّص الحاد في مساحات السير الجزائري في حقل علاقاتها الخارجية. لذلك الارتجاج عنوانان: الأول، تصعيد التوتر مع فرنسا، والآخر تأجيج الانقباض من الإمارات العربية، ومن خلالهما أعلم الحرس القديم أنه صاحبُ النفوذ في الجزائر، وأنه مُصِرٌّ على استمرار قواعد لعب النظام كما هي في الأصل، وأنه يتنفّس فقط دخان التوتُّرات.
في أجواء عيد الفطر، نهاية مارس وبداية أبريل، أي أقل من شهر ونصف الشهر، كانت للرئيس عبدالمجيد تبون مكالمتان هاتفيتين مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومع رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان. نتج عن المكالمتين تفاؤل قويٌّ بوقف التوتر في علاقات الجزائر مع فرنسا ومع الإمارات العربية.. في المكالمتين التزم الرئيس تبّون بِفتح صفحات بيضاء مع الدّولتين، وكان المحتمل، أن تكون لذلك تداعيات وتحوُّلات في الأوضاع الداخلية للجزائر ولعلاقاتها بمحيطها.
في حالة الإمارات العربية المتحدة، جرى ترصُّد مدخل ما لافتعال ضجيج يوقف مسار الانفتاح في العلاقات الجزائرية – الإماراتية. مسار مطلوبٌ وقفُه، رغم أن ذلك ضد المصالح الجزائرية، الاقتصادية والدبلوماسية.. الإمارات مستثمر هام في الجزائر وهي وازنة دوليا وحاضرةٌ في الجوار الجزائري، خاصة في ليبيا وفي مالي.
كان يكفي أن يتدخّل أستاذٌ جامعي جزائري في قناة “سكاي نيوز”، وهي ليست التلفزة الرسمية الإماراتية، ويُدْلي برأي تاريخي، قاله مرارًا في الجزائر، ومُتداوَل مَغاربيًا في المسألة الأمازيغية، لكي تنطلق حملة إعلامية عَنيفة، من التلفزة الجزائرية الرسمية، ضد الإمارات، كالت لها فيها كل ما استطاعته من سباب وشَتائم. السبب لا يُرى إلا بمجهر “الذين بأنفسهم مَرض”.. “الحرسُ القديم” يُعلن أنه الحاكم بأمره في الجزائر، حتى وما افتعله يُعاكس توجُّهًا للرئيس ويُحجّم مكانته في الدولة.
في حالة فرنسا، بعد المكالمة مع ماكرون، زار وزير الخارجية الفرنسية الجزائر، وعادَ منها بوعود على تجاوز ثمانية أشهر من اشتداد الخلافات بين الدّوْلَتيْن، وفي الخلفية انزعاج الجزائر من الإسناد الفرنسي الصريح للمغرب. بدَا الرئيس تبون متفائلا بأنه مارس فعاليةً رئاسيةً بقرارٍ مُنتج.. لم يكن في ما فعله الرئيس ما يعجب ويقبله “الحرس القديم”.
◄ "الحراك الشعبي" وسّع الهوّة بيْن الدولة والشعب الجزائري، وهو في الأصل صرخة ضد تسلُّط الدولة وهَبَّةُ لاستعادتها للمصلحة الوطنية الجزائرية
كان لا بد من العودة بالعلاقات الجزائرية – الفرنسية إلى وضع التوتر.. المكالمة بين الرئيسين فتحت مسارا يُغذّي قدرة الرئيس تبون على التحليق المنفرد، يبعده عن قبضة مغناطيس جنرالات الحكم، فضلا عن أن ميزان التوازنات في التنازلات المحتملة بين الجزائر وفرنسا يميل بدرجات عالية لفائدة فرنسا. وكل التنازلات الجزائرية الممكنة، والمفروضة، هي مُقْتَطَعَة من نفوذ الحرس القديم في النظام. وفي مداها البعيد تفيد المغرب. والمغرب هو عقدة العقد في الإدارة الفعلية للنظام الجزائري، وخاصة في ظرف تكتل المجتمع الدولي لفائدة مقترح الحكم الذاتي، الذي بادر به المغرب لحل المنازعة، الفاشلة والتي دامت نصف قرن، في الحق الوطني الوحدوي المغربي.
في فرنسا، الحذر من تقلُّبات النظام الجزائري، أدّى، بجهة مطلعة، إلى إخراج التحقيقات في اختطاف ومُحاوَلة قتل معارض جزائري، سنة 2024، وبعدها تم توقيف موظف قنصلي جزائري بشبهة ضُلوعه في تلك الجناية. تلك الجهة وضعت إصبعها في ما يؤلم الدولة الجزائرية، وهي “منطقة” العمليات السرية ضد المُعارضين الجزائريين في فرَنسا.. والتحقيقات مُتواصِلة، وقد تحدثت الصحافة الفرنسية عن خيط فيها يقود إلى كبار قادة المخابرات الجزائرية..
سياسيا، وبالنظر إلى السياق الذي فتحته المكالمة الهاتفية بين الرئيسين ماكرون وتبون، كان بالإمكان حصر الموضوع في تحقيق جنائي، والحدّ من انْزياحه إلى الدبلوماسية.. الحرس القديم كان له رأي خاص به، رأي التصعيد وقلْبِ الطاولة على الرئيس الجزائري نفسُه وبعدَه على فرنسا.. فكان ما كان من طرد دبلوماسيين فرنسيين، وتلت ذلك المُعاملة الفرنسية بالمثل، وصولا إلى ما حدث الأحد من مطالبة الجزائر بمغادرة دبلوماسيين فرنسيين آخرين، وردّ عليه وزير الخارجية الفرنسية بأن العلاقات “جدُّ مجمَّدة” وأن فرنسا لا تستبعد عقوبات. التصعيد وصل إلى درجة عالية، تحرق جسور العودة إلى التفاهم الواحد تلو الآخر.. وذلك ما يرتاح له جنرالات الحكم في الجزائر.
بكل ذلك تضيق العزلة الدبلوماسية على الجزائر.. كأن من يتحكَّم في الدولة يقطع الغُصن الذي يجلس عليه في الشجرة السياسية للجزائر. يضاف إلى ذلك ما هو الآن يتطور من ابتعاد موريتانيا من مُجامَلة الجزائر وحسبان وجودها، عبر رفضها المشاركة في المناورات العسكرية، إلى جانب بوليساريو، نهاية مايو الجاري، وقبل ذلك رفضها المشاركة في تحالف سياسي يُبْعِد المغرب من اتحاد المغرب العربي، ويضاف إلى ذلك ما حفل به البيان الصادر عن الملتقى البرلماني المغربي – الموريتاني من الالتزامات بتطوير التعاون الاقتصادي بين البلدين، خاصة في الزراعة والتجارة والصيد البحري، وهو ما يوفر الأساس المادي النافع لتعميق التفاهم الموريتاني – المغربي. طوق العُزلة يشتدّ على الجزائر في جوارها، وتتمادى الدّوْلة في المكابَرة وفي افتعال الأزمات.
◄ الحرس القديم نَفَّر النُّخبةَ الجزائرية من الدَّولة؛ شَخصيات من قيادات حزب جبهة التحرير الوطني كان لها حضورٌ وفاعلية في الحركية السياسية الجزائرية غادرت الدولة والسياسة معًا
مِصر هي الأخرى، وفية لعلاقاتها مع المغرب ومؤطِّراتها السياسية والمبدئية، تجاهلت دعوة الجزائر للمشاركة في نفس المناورات. ما يعني أنها تنأى بنفسها عن حسابات العداء الجزائري للمغرب… مِصر دولة مسؤولة عصيّة على حشرها في استفزازات عبثية وضد ثراء علاقاتها مع المغرب، بالأخوّة والتفاهم والمَنْفَعة. وأن تفقد الجزائر مصر في مناوراتها ضد المغرب، لهوَ فَقدٌ موجع..
روسيا أقامت احتفالا دَوليا فَخما وعَرضا عسكريا كبيرا بمناسبة الذكرى الثمانين للانتصار الروسي على النازية، دعت له رؤساء دول حليفة وصديقة مُقرّبة، وتجاهلت الرئيس الجزائري تبون ورئيس أركان الجيش الجزائري السعيد شنقريحة.. ما يعني أن وزن الجزائر في العلاقات الخارجية الروسية انخفض إلى أدنى مستوى. أصلا روسيا لم تُساند الجزائر في الانضمام إلى مجموعة “بريكس”، رغم الطلب الرسمي المُعلن للرئيس تبون. وروسيا حاضرة في مالي وفي ليبيا (الجاريْن للجزائر) بما يزعج الجزائر ويعمِّق عُزلتها، في المنطقة، ويُبعدها عن روسيا أكثر. فضلا عن أن روسيا تمتنع عن التصويت على قرارات مَجلس الأمن بخصوص نزاع الصحراء المغربية، مراعاة للمغرب وتجاهلا للجزائر.. بهذا ترفع روسيا الضغط في الدورة الدبلوماسية الجزائرية إلى درجة مَرضية مؤلمة.
المقلق في وضع العزلة الذي يضيق على الجزائر وتزايد النفور الدولي من سياساتها، أن الدَّوْلَة هي التي تنتجه وتفتعله. وموجهاتها الإستراتيجية يسكن فيها المغرب وحده، تحيطه بأقصى درجات العداء. وهو ما يحجب عنها النظر الواقعي لمصالحها مع العالم، ولما يراه العالم من مصالح له مع المغرب ومع السِّلم والتعاون والمنفعة.
أتصور أن “الحرس القديم” في الدولة، وهو يفرض انفعالاته وحساسياته على الدولة، يعزل نفسه داخلها، وهي كائن حيّ، لن تصبر على الاختناق في العزلة المزدوجة، الداخلية والخارجية… وأن التحول داخلها في اتجاه التجدّد لن يطول.. أتوقع أنباء سارة من الجزائر، قريبا، لها أولا ولمحيطها ثانيا.