إعادة الاعتبار إلى تصورات السيسي

عدد كبير ممن غضبوا من سياسات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي منذ توليه السلطة قبل أكثر من عشر سنوات أو رفضوا دعمها، بدأوا يراجعون موقفهم ويعيدون النظر في كثير من محدداته، بل وينصفون الرجل، على ضوء ما ظهر من تحديات متعاظمة تواجهها مصر، داخليا وخارجيا، ومنهم من طرح أسئلة وجودية، مثل: ماذا لو فشلت عملية إزاحة جماعة الإخوان عن السلطة في مصر، وما هو مصير البلاد لو أنها استمرت في الحكم وسط طوفان إقليمي لا يرحم الدول الضعيفة؟
مناسبة الحديث عن هذه القضية هو ردود شريحة من المواطنين العاديين ونخب ومثقفين، على مطالبة الملياردير المصري نجيب ساويرس مرة أخرى بانسحاب الجيش من دولاب الاقتصاد، والتركيز على الصناعات العسكرية، فقد جاءت الردود في غالبيتها ضد موقف رجل الأعمال، وحمل بعضها اتهامات له، وتشكيك في موقفه، وانتقادات أشد قسوة مما وجده عندما تفوّه بهذه المطالبة قبل سنوات قليلة، والتي لم يعلق على روافدها تقريبا، بينما احتاج هذه المرة إلى التبرير والتأكيد على حبه للدولة وتقديره لجيشها الوطني، لأن الحملة اتسع نطاقها وبلغت حدا أكثر ضراوة عليه.
لقي موقف ساويرس من تدخل الجيش في الاقتصاد المصري ترحيبا أو تضامنا نسبيا في المرة الأولى، أو على الأقل لم تكن الردود بالقسوة التي ظهرت في المرة الأخيرة، حيث كانت مشاركة المؤسسة العسكرية في بعض النواحي الاقتصادية غير مفهومة في المرة الأولى، وزادت حولها المخاوف من نتائج ما وصف بـ”العسكرة”، في إشارة إلى الهيمنة على بعض مفاصل الاقتصاد الرئيسية، وظهرت حملت تحريض كبيرة من جماعة الإخوان بغرض التشكيك في توجهات الجيش عامة، وتكاتف معها ضمنيا رجال أعمال تضررت مصالحهم من تدخل الجيش في الاقتصاد.
◄ عدد كبير ممن غضبوا من سياسات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي منذ توليه السلطة قبل أكثر من عشر سنوات أو رفضوا دعمها، بدأوا يراجعون موقفهم ويعيدون النظر في كثير من محدداته
في المرة الأخيرة التي تحدث فيها ساويرس (قبل أيام قليلة)، تكشفت الكثير من المعالم والأسباب التي أدت إلى تدخل الجيش، حيث تصاعدت حدة الأزمات التي تحيط بمصر، وكان يمكن أن تصبح المؤسسة العسكرية مكشوفة اقتصاديا لو لم تتمكن من توفير جزء ممّا تحتاجه من موارد بهذه الطريقة، وينعش بعض رجال الأعمال ممن يملكون أجندات خاصة في جسد الاقتصاد المصري بلا ضوابط.
مع أن شركات الجيش وضعت على عاتقه أعباء إضافية، هو في غنى عنها، غير أنه قبل التحديات من أجل حماية الدولة، حيث استشعر خطورة السيطرة على الاقتصاد من قبل جهات – شركات – وجماعات ضغط، غير معلوم توجهاتها السياسية، ما يمثل منغصا كبيرا للأجهزة الأمنية، التي وضعت نصب عينيها ما يجري في الفضاء الإقليمي من تطورات، تحتاج إلى المزيد من اليقظة، ومنع حدوث ارتباكات كبيرة على المستوى الخارجي، تتضافر معها أوضاع داخلية حرجة، وفي هذه الحالة ستكون التداعيات غاية في الخطورة، ولن تتمكن الدولة من العمل بديناميكية لمواجهة المخاطر الإقليمية.
تحدث الرئيس السيسي أكثر من مرة عن دور الجيش في الاقتصاد ورغبته في تخارجه من بعض المجالات غير الحيوية، بما يتيح الفرصة أمام المنافسة الحرة، وجرى بالفعل طرح عدد من شركاته في البورصة، وسواء تمت الخطوة والتوسع فيها مستقبلا أم لا، في الحالتين هناك ما يوحي أن تدخله كان خيارا تكتيكيا أكثر منه إستراتيجيا.
فرضت هذا الخيار دواع أمنية واقتصادية معيّنة، وفي ظل ظروف معقدة تمر بها الدولة داخليا وخارجيا، أي أن ما يسمى بـ”الهيمنة” أو “العسكرة” مرهون بتطورات معينة، الأمر الذي لم يدركه رجل الأعمال نجيب ساويرس جيدا أو يدركه وتغاضى عنه، لأن شركاته لم تحرم من المنافسة تماما في السوق المصري، وبعضها دخل في شراكات مع أخرى تابعة للجيش وحقق مكاسب مادية كبيرة.
لم تكن عملية إعادة الاعتبار إلى السيسي قاصرة على هذا المجال، بل أثيرت تساؤلات شبيهة حول مغزى شراء معدات عسكرية من الشرق والغرب بمبالغ طائلة، وظلت بعض الانتقادات تردد سيمفونية لماذا كل هذا الإنفاق على تسليح جيش دولة وقّعت اتفاقية سلام مع ألد خصومها، وهي إسرائيل، وصمدت الاتفاقية على مدار حوالي نصف قرن، إلى أن انفجرت الحرب على قطاع غزة، وما رافقها من تهديدات كبيرة لمصر. وقتها فسر الكثيرون أسباب مراكمة المزيد من المعدات العسكرية، والقيام بعملية تحديث تكنولوجية للجيش المصري، وتنويع مصادر تسليحه.
زادت أهمية هذه المسألة مع ظهور صراعات سابقة في المنطقة، كلها تمثل تهديدات للدولة المصرية، في مقدمتها انفجار الأزمة في ليبيا، وتوتر الأوضاع مع إثيوبيا بسبب المياه، وتصاعد حدة النزاعات في القرن الأفريقي، واندلاع حرب في السودان، وتصاعد حدة المخاوف ممّا يجري في جنوب البحر الأحمر وما عكسه ذلك من أضرار بالغة على قناة السويس، وظهور شبح حرب بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة وإيران وأذرعها العسكرية من جهة أخرى، فضلا عن التوترات الجارية في كل من سوريا ولبنان، وما يكتنف كل منها من تعقيدات.
◄ موقف ساويرس من تدخل الجيش في الاقتصاد المصري لقي ترحيبا أو تضامنا نسبيا في المرة الأولى، أو على الأقل لم تكن الردود بالقسوة التي ظهرت في المرة الأخيرة
خفتت حدة الاتهامات والانتقادات الموجهة إلى الرئيس السيسي وتوجهاته الرامية نحو تسليح الجيش المصري جيدا، وعرف من حاولوا إثارة الشكوك حولها أهمية التقديرات بعيدة المدى، التي تحمي هياكل الدولة، وتردع خصومها إذا فكروا في الاعتداء عليها، وهو ما أدركه مصريون رأوا دولا تتساقط وربما تتحلل، وجيوشا تتهاوى، بعضها يتقاتل مع ميليشيات وجماعات متمردة، وهي زاوية تعيد الاعتبار أيضا إلى أهمية الحرب التي خاضها الجيش المصري مبكرا لمكافحة الإرهاب في منطقة سيناء، وعصمت الدولة من مخاطر عدة، كادت تهدد وجودها لو تم تجاهلها أو التغافل عنها.
هدأ الرأي العام في مصر مؤخرا، وبدأ يتعامل بريبة مع السرديات التي يرددها معارضون يقيمون في الخارج، ويزداد ثقة بحسابات الرئيس السيسي، والذي كرر في خطاباته فكرة حرصه على عدم ضياع الدولة، وهي واحدة من المكونات التي جعلت شريحة كبيرة من المصريين تتحمل عواقب أزمة اقتصادية طاحنة، وتقبل بسياسات رفضتها قبل أن تطل التهديدات برأسها، وراودها شعور بالبذخ.
وبعد أن خبروا الكثير من تفاصيل ما يحيط بمصر، عزفوا عن الانسياق وراء من أثاروا شكوكا حول رؤى الرئيس السيسي، وتفهموا مقاطع عديدة في أجندته، والتي لم يفصح عن الكثير منها، وترك للمواطنين عملية استشفافها من التطورات التي تعج بها المنطقة، والحالة التي كان يمكن أن تحدث لو لم تستعد الدولة المصرية جيدا، وهو سؤال تكفي الإجابة عنه إلى رد الاعتبار إلى تصورات الرئيس السيسي.