مراجعات ممنوعة… عبدالناصر والقذافي وما لم ينشر بعد

العالم العربي بحاجة ماسّة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى وقفة صريحة مع تاريخه السياسي، لم يعد بالإمكان أن نظل أسرى لنسخ من الماضي نُعيد اجترارها دون مراجعة أو تصحيح، تماما كما يفعل الإسلاميون مع تراث ديني يرفضون تحديثه أو مراجعته، الأزمة أكبر من أن تكون قضية سياسية عابرة، إنها أزمة عقل عربي استسلم لقيود مصطنعة من أزمنة متعاقبة، ففقد القدرة على إعادة تعريف مفاهيمه وتطويرها.
التسجيلات المنسوبة إلى جمال عبدالناصر ومعمر القذافي، والتي تتحدث عن مراجعات فكرية لخيارات الصراع مع إسرائيل بعد نكسة 1967، تمثل جزءا صغيرا من هذا الأرشيف المسكوت عنه، وهي تكشف بوضوح أن قادة كبارا أدركوا إخفاقاتهم، وحاولوا مراجعة مواقفهم، لكنهم وجدوا أنفسهم أسرى لشعارات المرحلة، خصوصا بعد قمة الخرطوم وما حملته من “لاءات ثلاث” تحولت إلى قيود سياسية صارمة.
ماذا لو أتيح للرئيس جمال عبدالناصر أن يكمل مراجعاته الفكرية والسياسية؟ ماذا لو تحررت العواصم العربية من رهانات الشعارات الفارغة واتجهت نحو سياسة واقعية أكثر قربا إلى العقل والمنطق؟
القذافي، الذي سُخر من فكرته “إسراطين” التي طرحها في العام 2003، وكان يقدم، بطريقته الخاصة، محاولة لمراجعة منطق الصراع العربي – الإسرائيلي، قد نختلف مع طروحاته، وقد نراها ساذجة أو غير واقعية، لكنها في جوهرها كانت صرخة مبكرة ضد الجمود، ضد الاستمرار في إنتاج الكوارث السياسية باسم شعارات تجاوزها الزمن.
اليوم، وبعد مرور عقود على تلك المحطات، يجب أن نكون أكثر جرأة في كشف المستور، يجب أن نسأل: ماذا لو أُتيح للرئيس جمال عبدالناصر أن يكمل مراجعاته الفكرية والسياسية؟ ماذا لو تحررت العواصم العربية من رهانات الشعارات الفارغة واتجهت نحو سياسة واقعية أكثر قربا إلى العقل والمنطق؟
إن إنكار الإخفاقات السياسية، كما يفعل الإسلاميون مع التراث الديني، ليس مجرد خطأ، بل هو استمرار في الخطيئة ذاتها، لا يمكن تصحيح المسار ما لم نواجه الحقائق بجرأة، ونعترف بأن جزءًا من الانكسارات التي عشناها كان بسبب خلل في التفكير، وضيق في الرؤية، وعبادة لقرارات صنعت تحت ضغط اللحظة لا لحكمة الزمن.
لكنّ الجمود لا يقتصر على تيار الإسلام السياسي وحده، فالسلفيون، مثلا، متمسكون بمنهجهم الفقهي التقليدي إلى درجة التقديس، رافضين أي محاولة للتجديد أو إعادة القراءة، هذا الرفض يوفر لجماعة الإخوان المسلمين مساحة واسعة لتسييس التراث الديني والعربي وتحويله إلى أداة أيديولوجية في الصراعات السياسية، والمشكلة لا تنحصر في مذهب واحد، بل تطال مختلف المدارس الفكرية الإسلامية، التي تتورط جميعا في تقديس الماضي ورفض أي مراجعة نقدية له.
المراجعة السياسية لن تكون مجدية ما لم تنطلق من رغبة حقيقية في قبول الرأي الآخر، والخروج من دائرة التخوين والتكفير، هناك خطايا لم يتم الاعتراف بها، وعلى رأسها ما يمكن تسميته بخطيئة خصوم الناصريين، حين راهنوا على الإسلاميين وجندوهم في معارك أفغانستان، فكانت النتيجة ولادة الوحش الجهادي الذي انقلب على الجميع. لم تكن تلك مجرد خطيئة سياسية، بل كانت انتحارا فكريا طويل الأمد، ما زالت آثاره تلاحق العالم.
والمفارقة أن بعض الدول العربية تحاول اليوم إعادة تدوير تلك التجارب الفاشلة، بتوظيف نفس التيارات المتطرفة في صراعات إقليمية جديدة، دون أن تتجرأ على مراجعة تلك السياسات أو الاعتراف بأخطائها، إننا نكرر الأخطاء ذاتها مع سبق الإصرار.
النكسة لم تكن مجرد هزيمة عسكرية، كانت انهيارا لمشروع سياسي كامل بُني على أوهام وأمنيات وأحلام، دون استعداد حقيقي للمراجعة وحتى عدم استعداد للنقد السياسي، كلما حاول أحد أن يصرخ بالحقيقة، وُضع في خانة المشبوهين أو المتخاذلين، وهكذا تحولت الشعارات إلى أغلال، وأصبح التخوين بديلا عن التفكير.
الأرشيف السياسي العربي مليء بشهادات مخنوقة، ورسائل غير منشورة، ومراجعات تمت في الغرف المغلقة ولم يُسمح لها بالخروج إلى العلن، وما لم يُفتح هذا الأرشيف بكل شجاعة، سيظل العقل العربي يراوح مكانه، وسنواصل إضاعة الفرص تلو الفرص.
إن العالم تغيّر، القوى الصاعدة تتبنى الواقعية، تعترف بأخطائها وتطور من آليات عملها، أما نحن، فما زلنا نُعلي من شأن الشعارات فوق الإنجازات، ونُقدّس الحروب الخاسرة بدل البحث عن حلول تنقذ ما يمكن إنقاذه.
كسر القيود التي كبّلت العقل العربي يبدأ بالاعتراف بأننا أخطأنا، لا يمكن بناء مستقبل صحي ومتين من دون عملية جراحية صريحة لتاريخنا السياسي، علينا أن نطرح أسئلة موجعة: لماذا فشل مشروع الوحدة العربية؟ لماذا انهارت الأنظمة التي رفعت شعارات المقاومة؟ ولماذا استمرّ البعض في تقديس أخطاء الماضي باعتبارها انتصارات رمزية؟
ولعلّ الأهم من ذلك أن ندرك أن كشف المستور لا يعني جلد الذات، بل يعني تأسيس ثقافة سياسية جديدة قوامها المصارحة والمكاشفة، ثقافة لا تعتبر المراجعة خيانة، ولا ترى في النقد انحيازا إلى العدو، بل تراه ضرورة للنجاة والبقاء.
إن الإسلاميين الذين يرفضون مراجعة تراثهم الديني، ويصرون على تقديس الفقه القديم دون اعتبار لمتغيرات العصر، ليسوا استثناءً، إنما هم تجسيد لأزمة أوسع تضرب طريقة تفكير العقل العربي عموما، فكما أن الدين بحاجة إلى فقه متجدد، فإن السياسة بحاجة إلى عقل إستراتيجي متجدد، يعترف بأن إدارة الدول لا تخضع للعواطف ولا تُدار بالهتافات.
إن أكبر خطر يواجه العرب اليوم هو الاستمرار في إدارة ظهورهم للمراجعات الضرورية، فالمستقبل لا ينتظر من لا يريد أن يعترف بماضيه، والعالم لا يحترم من يختار العيش في قصص البطولات الوهمية.
لقد آن أوان أن نرفع الغطاء عن هذا الأرشيف المسكوت عنه. أن نستخرج منه الدروس والعبر، بدل أن نواصل الدوران في نفس الحلقة المفرغة. آن الأوان أن نكسر القيد الذهني الذي صنعته الخيبات المتراكمة، وأن نتحرر من أسر الشعارات إلى أفق التفكير الحر.
فقط حينها يمكن للعرب أن يبدؤوا فعلا كتابة تاريخ جديد، لا يقوم على تكرار الفشل، بل على تجاوز الإخفاقات. تاريخ يُبنى على الجرأة في الاعتراف، والشجاعة في التصحيح، والذكاء في صياغة المستقبل.
العالم العربي لا يحتاج إلى المزيد من المانشيتات الرنانة، بل إلى عقل شجاع، حر، واقعي، عقل يكسر القيود، وينطلق إلى رحابة الحقيقة.
لا تصحيح بلا كشف، ولا كشف بلا شجاعة، وهذه مسؤولية النخب الفكرية والسياسية قبل أي أحد آخر، جمال عبدالناصر وصدام حسين وسالم ربيع علي والحبيب بورقيبة وهواري بومدين لهم تجاربهم السياسية في سياقها كما كان لغيرهم من الملك حسين والملك فيصل تجاربهم، المراجعات ضرورة زمنية آن أوانها لكسر تابوهات الخوف من الماضي.