حين تُدار الأزمات بلا أسماء.. السودان وحقيقة ما لا يُقال

لم يعد من المقبول، ولا المجدي، أن نواصل التعامل مع الأزمات العربية من دون تسميتها كما هي، في السودان، لسنا أمام “نزاع على السلطة”، بل نحن في صميم حرب أهلية مكتملة الأركان، تدور بين قوتين مسلحتين لا تمثلان الدولة، ولا تعبّران عن إرادة شعبها، ومع ذلك، لا يزال العالم العربي، والمجتمع الدولي معه، يختبئ خلف لغات باهتة ومصطلحات مغشوشة، تهرب من توصيف الواقع، وتعيد إنتاج المأساة بدلاً من معالجتها.
ما لم يُسمّ الصراع باسمه، فلن يكون هناك مسار عادل ولا حل واقعي، والمشكلة ليست محصورة في السودان وحده، بل هي جزء من أزمة أعمق في العقل السياسي العربي، الذي فشل مراراً في رعاية عمليات الانتقال السياسي، من اليمن إلى ليبيا، ومن سوريا إلى لبنان، ثم السودان، والسبب ببساطة هو العجز عن توصيف الحقيقة كما هي، والانطلاق نحو المعالجة من مواقع التوازنات والمصالح لا من جوهر الأزمة.
ما يحدث في السودان اليوم ليس نتيجة خلاف آني، بل هو امتداد مباشر لانقلاب الإسلام السياسي بقيادة عمر البشير وحسن الترابي عام 1989، الذي دمّر مؤسسات الدولة، ومكّن لميليشيات داخل أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية، وكان ممراً للأفغان العرب الذين أنتجتهم السياسات العمياء التي ما زالت تتخبط حتى الآن وإن هي اكتوت بلظى لهيب تنظيمات القاعدة وداعش فما زالت تعيد الرهانات الخاطئة ولم تتعلم دروس التاريخ، هذا الانحراف هو ما أوصل الشعب السوداني إلى أزمته المركبة، وليس “العقوبات الدولية” كما يحاول البعض ترويجها، فالعقوبات كانت نتيجة مباشرة لسلوك نظام جعل من السودان منصة لتنظيم القاعدة، ومحطة عبور لشحنات الإرهاب.
◄ الشعوب لا تبحث عن الرعاية، بل عن الاعتراف بإنسانيتها، وعمّن يجرؤ أن يقول لها: "أنتم لستم متفرجين على حربٍ بين طرفين.. أنتم الضحية الوحيدة في صراع لا يعنيكم"
ومنذ سقوط نظام البشير عام 2019، لم تتوانَ دولة الإمارات العربية المتحدة عن دعم العملية الانتقالية المدنية، سواء في مؤتمر جنيف، أو في منصة جدة، أو عبر قنوات واشنطن السياسية، بذلت أبوظبي جهداً سياسياً هائلاً لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وهو ما تحقق فعلاً بفضل تدخل مباشر من القيادة الإماراتية التي استخدمت رصيدها السياسي لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة، في وقت كانت فيه الخرطوم عاجزة عن بناء ثقة مع المجتمع الدولي.
ولا ننسى أن السودان لم يكن فقط محاصراً خارجياً، بل كان منبوذاً داخليًا بعد عقود من التهميش والتقسيم والعبث بثرواته، ولهذا لم يكن إخراجه من عزلته الدبلوماسية والاقتصادية ممكنًا لولا هذا الدور الإماراتي، الذي لم يُطلب مقابله امتياز، ولا فرض فيه مشروع، بل كان منطلقه الأساسي دعم الدولة الوطنية، لا الدولة الأيديولوجية.
كما قدّمت الإمارات ما يما يقارب 4 مليارات دولار من المساعدات الإنسانية، شملت الغذاء والدواء والإيواء، لم يكن هدفها إلا التخفيف من معاناة السودانيين، من دون أيّ أجندة سياسية أو أيديولوجية، ومع ذلك، جاءت المكافأة من بعض مراكز القرار السوداني على شكل دعوى قضائية ضد الإمارات أمام محكمة العدل الدولية، وهي خطوة سياسية بامتياز، لا يمكن فهمها إلا ضمن إطار صراع التيارات الإخوانية مع النموذج الإماراتي الذي يرفض الفوضى كوسيلة للتمكين.
السودان اليوم لا يحتاج إلى المزيد من المؤتمرات والمبادرات الشكلية، بل يحتاج إلى شجاعة في التوصيف، لا الجيش السوداني ولا قوات الدعم السريع يمثلان الدولة، الطرفان يخوضان حرباً أهلية على النفوذ والسلاح، والشعب السوداني يُذبح على الهامش، والحديث عن وقف إطلاق نار دون الإقرار بهذه الحقيقة هو ذرّ للرماد في العيون.
وما يزيد الطين بلة أن وسائل إعلام عربية، بتأثرها بخطاب شعبوي أو اصطفافات أيديولوجية، أسهمت في تشويش الصورة أكثر مما أوضحتها، ففي الكثير من التغطيات، يتم تصوير طرفي الحرب على أنهما “أطراف وطنية” في نزاع قابل للحل، بينما في الواقع لا علاقة لهما لا بالدولة ولا بوحدتها، بل هما طرفا تفككها واحتلالها المسلح.
المجتمع الدولي مطالب بتحمل مسؤوليته، لكن مسؤوليته لا تبدأ من إرسال المساعدات أو الدعوات إلى الحوار، بل تبدأ من الانحياز الكامل إلى الشعب السوداني، وتجريده من كل من صادر صوته وسلاحه ومستقبله، أي مسار سلام لا يُبنى على هذه الحقيقة سيُعيد إنتاج ذات الحلقة الجهنمية التي بدأت مع البشير ولم تنتهِ بعد.
◄ ما يحدث في السودان اليوم ليس نتيجة خلاف آني، بل هو امتداد مباشر لانقلاب الإسلام السياسي بقيادة عمر البشير وحسن الترابي عام 1989، الذي دمّر مؤسسات الدولة، ومكّن لميليشيات داخل أجهزة الدولة
ومن المعيب – سياسياً وأخلاقياً – أن يُهاجم طرفٌ كالإمارات، لا لشيء إلا لأنها لا تقبل أن يكون السودان ورقة في يد جماعة عابرة للحدود، فهذا الصراع ليس “خلافاً دبلوماسياً” ولو كان كذلك هل من تفسير منطقي في أن السودان لم يقطع علاقاته الدبلوماسية مع الإمارات، وهذه نقطة جوهرية يتم التغاضي عنها في توصيف معضلات السودان السياسية، فالشكوى المرفوعة محاولة مقصودة لتضليل الرأي العام، وتشويش الرؤية حول ما يجري في الداخل السوداني، في سياق لعبة أكبر تهدف إلى فرض سياسة الأمر الواقع على السودان والمنطقة.
هذه المناكفة الإعلامية لا تأتي من فراغ، بل ضمن محاولات إعادة إنتاج السردية الإخوانية بأدوات جديدة، عبر اتهامات قانونية ودعاوى فارغة لا تصمد أمام الحقائق، فالإمارات التي بنت نموذجاً ناجحاً في الحكم والإدارة، صارت هدفاً مستمراً لكل من فشل في بناء دولته ويريد إسقاط الآخرين إلى قاعه.
اليوم، أمام هذه الفوضى العميقة، المطلوب أن تخرج أصوات عاقلة وشجاعة تقول الحقيقة كما هي: السودان يعيش حرباً أهلية، لا يمكن إنهاؤها إلا بتجريد الأطراف من سلاحها، ووقف دعمها الإقليمي والدولي، وتوفير مظلة انتقال سياسي بقيادة مدنية كاملة، لا تخضع لا للعسكر ولا للميليشيات.
إن أسوأ ما يمكن أن يحدث هو أن تستمر التغطية على هذه الحرب بلغة المصطلحات: “نزاع داخلي”، “صراع على السلطة”، “أطراف الأزمة”، “حرب الجنرالات”، فهذه كلها عبارات تُستخدم لإخفاء الجريمة لا لإنهائها.
في النهاية، لا تبحث الشعوب عن الرعاية، بل عن الاعتراف بإنسانيتها، وعمّن يجرؤ أن يقول لها: “أنتم لستم متفرجين على حربٍ بين طرفين.. أنتم الضحية الوحيدة في صراع لا يعنيكم،” وهذا ما يجب أن يكون، لذلك على النظم العربية أن تقتدي بالإمارات التي وصفت واقع السودان كما هو، فالعلاج يأتي من معرفة الداء.