البدء من تغييب المقاعد الأخرى؛ دلالات المفاوضات الإيرانية - الأميركية في سلطنة عمان ونتائجها المتوقّعة

جلوس الجانبين إلى طاولةِ الحوار يُمثل تطورا كبيرا وفتحا لعقدة مُستعصيةٍ لكنه لا يعني الوصول إلى بر الأمان فالهوّة شاسعة بين ما تريده إيران وما تُريده الولايات المتحدة.
الخميس 2025/04/10
الحوار الثنائي.. انتكاسةً لفكرة المفاوضات الموسّعة

أعلن الرئيسُ الأميركي دونالد ترامب في اللقاء الذي جمعه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن الولايات المتحدة ستُجري حوارًا مُباشرًا على مستوىً عالٍ مع مسؤولين إيرانيين يوم السّبت القادم. وعلى الرغم من أنّ الجانب الإيرانيّ نفى أنْ تكون المفاوضاتُ مع واشنطن مُباشرةً فإنه أكّد لقاءَ السّبت المُقبل، مُبيِّنًا على لسان وزير الخارجية عبّاس عراقجي أنّ مسقط ستستضيفُ هذا الحوار الذي سيكونُ غيرَ مُباشرٍ، وأنّ الكُرة باتت الآن في ملعب الولايات المتحدة.

تطورٌ سريعٌ، ولافتٌ أدّى على الصّعيد الإيراني إلى هُبوط أسعار الدولار الأميركي بنسبة بلغت نحو 5 في المئة في غُضون ساعاتٍ، في إشارة إلى التفاؤل الذي تُبديه الأسواقُ لمآلاتِ هذه المفاوضات. وبغضّ الطرف عمّا يؤول إليه هذا الحوار المباشر (بحسب الرواية الأميركية) أو غير المباشر (بحسب الرواية الإيرانية) فإنّ ثمّة ملاحظاتٍ ينبغي أخذُها بالحسبان لفهم السّياقات التي تجري ضمنها المفاوضات.

خلافًا للمفاوضات التي أدّت إلى توقيع الاتفاقية النووية لعام 2015، حيثُ شاركَ إلى جانب الولايات المتحدة وإيران كُلٌّ من الثلاثي  الأوروبي، وروسيا، والصين. ستكونُ المفاوضات القادمة ثنائية بامتياز؛ فقد جرى إقصاء كل الأطراف الثالثة منها، بما فيها الأطراف الأوروبية، وروسيا، والصين. ويحملُ اختيار عُمان لاستضافة هذه المفاوضات دلالات واضحة؛ إذ لا تنظُر طهران إلى عمان بوصفها وسيطًا، بمقدار ما تنظر إليها باعتبارها المستضيف الطرف الذي يوفر الطاولة والرسول، من دون أن يتدخّل أو يحاول التأثير على مضمون ما يوضع على الطاولة.

◄ الرئيس ترامب لن يكون اللاعب الوحيد في المشهد السياسي الأميركي المؤثّر في هذه المفاوضات؛ ففي الدوائر السياسية الأميركية هناك كتلةٌ كبيرةٌ من الجمهوريين والديمقراطيين لا يحبذون فكرة التوافق الهشّ

ولا شكّ أنّ هناك محاولات إيرانية لاسترضاء الحليفين الشرقيين اللذين تم إلقاؤهما خارج السياج، وذلك من خلال حوارات تنسيقيّةٍ موازيةٍ، ستستضيفُ جولتها الأخيرة العاصمة موسكو اليوم أو غدا. ولكن ما تمّ التوصُّل إليه بشأن شكل المفاوضات، ومكانها، يعني بشكلٍ واضحٍ، رفض الوسَاطة الروسيّة، في خطوةٍ كانت مُتوقّعةً بسبب الموقف السّلبي الذي يحمله فريق الدبلوماسية الإيرانية حيال موسكو، والتعنُّت الذي أبدته موسكو حيال الملفّ، حين طرحته على طاولة حوارها الثنائي مع واشنطن من دونِ تواجُدٍ لإيران. وهو ما لاقى انتقاداتٍ إيرانية واسعةٍ.

ويُشكِّلُ هذا الحوارُ الثنائيّ بين طهران وواشنطن، انتكاسةً لفكرة المفاوضات الموسّعة التي طالبت بها أطرافٌ إقليميّةٌ في فترة الرئيس جو بايدن، مؤكدةً أنها ترفُض مخرجات أيّ حوارٍ لا يُشْرِكُها في التّفاصيل، والنتائج. ومن منطلق كونها مفاوضات ثنائية بين إيران والولايات المتحدة فإن من الوارد جدًّا أنْ تُقدّم واشنطن مُبادراتٍ سريعة لتعبيد الطريق أمام التّوصُّل للاتفاق المنشود خلال المهلة الزمنيّة المحدودة المتوافرة أمام المفاوضين. ويساعدها في ذلك أن العقوبات في المرحلة الراهنة ليست سوى عقوبات فرضتها الإدارة الأميركية نفسها لأن العقوبات الدولية مؤجلة بموجب نص الاتفاق النووي حتى أكتوبر القادم على أقل تقدير.

غير أن هذا لا يعني أنّ الطّريق مُعبّدةٌ وسهلةٌ أمام الجانبين للتوصُّل إلى اتفاقٍ سَلِسٍ؛ إذْ ثمّةَ عقباتٍ يمكن أنْ يضعها آخرون في طريق المفاوضات، ومنها: “آلية الزناد” التي يتضمّنها نص الاتفاق النووي، والتي تمنح المشاركين في الاتفاق حقّ تفعيلها لإعادة العقوبات الدولية على إيران من دون الحاجة إلى تصويت “مجلس الأمن”. وكان مفترضًا أن يُستخدَم التلويحُ بتفعيل “آليّة الزناد” للضغط على الموقف الإيراني، وإلزامها بالحضور إلى مفاوضاتٍ تُشارِكُ فيها أطرافٌ أوروبيّةٌ إلى جانب الولايات المتحدة. لكنّ تغييب الثلاثي الأوروبي عن مفاوضاتِ مسقط، قد يخلط الأوراق على هذا الصعيد. ويبقى من الوارد أنْ تلجأ الأطرافُ الممتعضة – بمن فيها إسرائيل – إلى الثلاثي الأوروبي، مطالبةً إياهُ بتفعيل “آلية الزناد”، وذلك بُغية الضّغط على موقف الولايات المتحدة، لإضافة ملفاتٍ أخرى للحوار الذي تُجريه مع إيران.

إنّ جُلوس الجانبين؛ الأميركي والإيراني إلى طاولةِ حوارٍ مُباشرٍ، أم غيرِ مُباشرٍ، يُمثِّلُ تطورًا كبيرًا، وفتحًا لعُقدَةٍ مُستعصيةٍ، لكنّه لا يعني الوصول إلى برّ الأمان؛ فالهوّة شاسِعةٌ بين ما تريده إيران، وما تُريده الولايات المتحدة. وبغضّ الطرف عن المنظور الإستراتيجي الذي يحكُم الرؤية الإيرانيّة، تسعى طهران في هذه المرحلة إلى خوض مفاوضاتٍ تؤول إلى حلول مرحليّة، وتطمعُ في أنْ تحصل على حوافِزَ سريعةٍ من الجانب الأميركي، تتمثّلُ في إلغاء بعضِ العُقوبات المؤثرة. وهذا ما أعلنه الإيرانيون في أكثر من مُناسبةٍ، كان آخرُها موقفُ وزير الخارجية الذي أكّد أنّ إيران تطلبُ عربون “حسن نوايا” من الجانب الأميركي. لكنْ على الجانب الأميركي، يعلنُ المسؤولون بأنّهم لن ينزلقوا إلى فخِّ مُفاوضاتِ استنزافٍ، كتلك التي انزلق إليها الديمقراطيون وإداراتهم. ويؤكّدُ المسؤولون الجمهوريُّون اليوم، أنهم يريدون حوارًا سريعًا، يُفضي بشكلٍ عاجلٍ إلى النتائج التي يرجونها، وهي إنهاءُ البرنامج النووي الإيراني، بشكلٍ كاملٍ على الأقلّ، إنْ لم يكُن بالإمكان التوصُّلُ إلى اتفاقٍ شاملٍ يُنهي كافّة الملفات الخلافية العالقة.

ومن المؤكّد أنّ الإدارة الأميركية ستلجأ في مفاوضاتها الرّاهنة مع إيران إلى مُمارسة تكتيك “الحوار تحت الضغط”، وإجراء المفاوضات بالتزامُن مع استمرار التصعيد الميدانيّ، والتلويح بالقضاء على البرنامج النووي الإيراني عبر القصف. وممّا يدفع الإدارة الأميركيّة – ويدفع الجانب الإيراني كذلك – إلى الإسراع في التوصُّل إلى نتائجَ ملموسة في هذه المفاوضات، هو قُربُ انتهاء أجل الاتفاق النووي الذي سينقضي أجلُه في غضون ستة أشهر؛ ما يستوجبُ التفكير في بدائل له في غضون شهرين أو ثلاثة.

ولنْ يكون الوصولُ إلى الاتفاق المنشودِ سهلًا وسريعًا، حتى إذا افترضنا أنّ الجانبين يبذلان كل جهودهما للتوصُّل إلى اتفاقٍ سريعٍ، وأنّهما قادران على جسر الهوّة الشاسِعة جدًّا بين رؤيتيهما، وأنّ اقتصار الحوار عليهما من دون الأطراف الأخرى سيساعدهما في ذلك. إذ لا بُدّ لكُلٍّ منهما ابتداءً من التنسيق مع الحُلفاء، خصوصًا على الجانب الإيراني الذي لا يُمكنه المُغامرة بفقدانِ دعم حليفَيْه الشّرقيَّيْن. كما لا بُدّ لكُلٍّ منهما من التفكير في سُبُلٍ لمواجهة الاعتراضات الداخليّة، والعوائق القانونيّة والسياسية التي فرضها، ويفرضها الجدل الدّاخلي بشأن هذه المفاوضات. وكُلُّ ذلك ممّا يحُدُّ من التفاؤل بشأن نتيجةٍ سريعةٍ وحاسمةٍ للمفاوضات.

◄ خلافًا للمفاوضات التي أدّت إلى توقيع الاتفاقية النووية لعام 2015، حيثُ شاركَ إلى جانب الولايات المتحدة وإيران كل من الثلاثي الأوروبي، وروسيا، والصين، ستكونُ المفاوضات القادمة ثنائية بامتياز

ولا تزال المؤسسات الثورية في داخل إيران غير مقتنعةٍ بفكرة الحوار مع الولايات المتحدة. ومن الواضح أنّ قرار الذهاب إلى مسقط، تمّ اتخاذُه على مضَضٍ، ولذلك فهو قرارٌ هشٌّ، بالرّغم من رغبة الحكومة الإيرانيّة الإصلاحية/المعتدلة في تطبيقه، وإنجاحه. ولعلّ أهم عقبةٍ سيتعيّنُ على حكومة الرئيس مسعود بزشكيان مواجهتها في الداخل، هي عقبة مُعارضة البرلمان الإيراني الذي أقرّ قبل عامين قانونًا يمنعُ التّنازل عن الإنجازات النووية التي تحققت لإيران بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية لعام 2015. ويهيمن المحافظون على البرلمان الإيراني الحالي، وفيه كتلة برلمانية متشددةٌ للغاية، من المفترض أنْ تُعرقل مسارَ التوصُّل إلى اتفاقٍ سريع، وسلس. وثمة حربُ هيمنةٍ على القرار السياسي تجري في إيران، بين البرلمان وبين الحكومة، تزيد من تعقيد الأمور، وتضع عقباتٍ على طريقِ أيّ اتفاق من شأنه أنْ يدعم سطوة الحكومة على المشهد السياسي. وتطالب تلك القوى الثورية بضرورة إخضاع الاتفاق لإرادة البرلمان، لتكريس ظاهرة سطوة البرلمان على القرار السياسي الإيراني.

ولن يكون الرئيس ترامب اللاعب الوحيد في المشهد السياسي الأميركي المؤثّر في هذه المفاوضات؛ ففي الدوائر السياسية الأميركية هناك كتلةٌ كبيرةٌ من الجمهوريين والديمقراطيين لا يحبذون فكرة التوافق الهشّ، أو التوافق المنقوص مع الجانب الإيراني. وأظهرَ هؤلاءِ مؤخّرًا تحرُّكًا لمنع تنازُل الولايات المتحدة، من خلال مشروعِ قانونٍ يتبنّاه الحزبان، ويُلزِمُ الإدارة الأميركية بممارسة أقصى الضغوط على النظام الإيراني، ودعم المعارضين، ومن خلال مشاريع قوانين أخرى تعزّز هيمنة البرلمان الأميركي على مسار التعامل مع الملف الإيراني. ومن المرجح أنْ تلجأ الأطراف الممتعضة من قرار الانخراط في مفاوضات ثنائية إلى تلك اللوبيّات المتشدّدة، لردع الرئيس ترامب الذي قد لا يرغبُ بخوض مشادّات مع حاضنته البرلمانية في ظلّ الضغوط التي تواجهها إدارته بسبب السياسات الاقتصادية.

ولا يمكن الحديث عن نجاعة الحوار بين إيران والولايات المتحدة، حتى إذا كان مباشرًا، من دون تذليل تلك العقبات الواقعية. خصوصًا في ضوء هوّة شاسعة بين ما تفكر فيه إيران، وما تبتغيه واشنطن من هذه المفاوضات؛ فأقصى ما تفكّر فيه إيران، هو العودة إلى بعض التزامات الاتفاق النووي، مقابل الحصول على ما هو أكثر، وأسرع ممّا حصلت عليه في ذلك الاتفاق، بينما تريد واشنطن القضاء على برنامج إيران النووي بالكامل، وتجاوزه إلى خطوات ميدانية في ملفات خلافيّة أخرى.

ومع كل هذا التشاؤم فإن لجوء الجانبين الأميركي والإيراني إلى حوارٍ ثنائيّ، من دون وسيطٍ حقيقيّ – حيثُ لا تمثّل عُمان دور الوسيط بمقدار ما تمثّل دور المستضيف – يبقى تطوُّرًا هامًّا. وقد يفضي إلى نتائج ميدانيّة مهمّة جدًّا. وهو يُثيرُ مخاوف مُتعدّدة أيضًا، على رأسها تغييبُ الأطراف الإقليمية والدّوليّة من مُجريات الحوار. وبالتأكيد، ليس هذا خبرًا جيّدًا لهذه الأطراف.

9