إيران لو تِلعَب.. لو تَخَرَّب المَلعَب

إيران التي يَئسَت مِن ابتلاع كل كَعكة العِراق ورَأَت أن ليسَ بإمكانِها شِراء كل أكراد وسُنّة العِراق وأن بَعضهم سَيَبقى شَوكة في زورها قرّرَت أن تَكتفي بقَضمة كبيرة مِنها تُمَثِّل نُصف العِراق.
الجمعة 2025/04/04
إبقاء العراقيين مخدّرين بالزيارات والعِزيات

تَصاعَدَت في الآونة الأخيرة، الأصوات المُطالبة بتَشكيل إقليم الوَسَط والجَنوب، بل وحَتى دَولة شيعية، مِن قبل نَفس الجِهات التي ما انفَكّت بالأمس تُخَوِّن مَن كان يُطالب بتَشكيل هذا الإقليم لأسباب إدارية. هذه الجِهات مِن قيادات قوى الإسلام السياسي الشيعي، ومِن خَلفِهِم إيران، يَنطبِق عَلَيهم اليوم المَثل العِراقي القائل “لو ألعَب، لو أخَرّب المَلعَب”، الذي يُضرَب بالخُبث والأنانية، ومَعناه ألعَب مَعَكم غَصباً وأفعَل ما أريد، أو أفسِد لعبَتَكُم ولا أترُكُكُم تلعَبون. والمَلعَب هنا كمَكان للَعِب، هو تَعبير مَجازي للمَكان الذي تَجري فيه الأحداث، وهو هُنا العِراق.

لطالَما كان حُلم إيران السَيطرة على كل العِراق مِن شماله إلى جَنوبه ومِن شَرقِه إلى غَربه. حاوَلَت فعل ذلك بعِدّة طُرُق، بَعضَها قِمّة في الوَحشيّة والدناءة، فلم تَتَوَرّع عَن القَتل والإبادة والكذِب، والتحالف مَع التنظيمات الإرهابية السُنية كالقاعدة وداعِش، أو تشكيل تنظيمات إرهابية شيعية كالحَشد، وقد قطَعَت أشواطاً بهذا الاتّجاه. فهي تَتَحَكّم اليَوم بالعِراق جُغرافياً وسِياسِياً واقتِصادياً وفِكرياً، ولها أتباع بَين ساسة السُنّة والكُرد والتُركمان والمَسيحيين، إلى جانِب إحكام قبضَتِها على كل قوى الإسلام السياسي الشيعي. لكِن بالنهاية، هُناك دائِماً بَين السُنّة والأكراد وحَتى بَعض الشيعة، مَن يُدرك خطورة إيران وأتباعها ومَشروعها التَوَسّعي بالمَنطقة، ويَعلم بأنّها تُريد جَعل العِراق حَجَره الأساس ومَسخه كدولة، ويَدعو للتَخَلص مِن هيمنتها، وهُم يَميلون للانفتاح على المُحيط العَرَبي والمُجتمَع الدولي للنُهوض بواقِع العراق، أو على الأقل مَناطقهُم، وهذا يَتقاطَع مَع مَشروعِها الذي يَسعى لإبقاء العِراق وشَعبه مُتأخِّراً عَن رَكب الحَضارة، وغارِقاً في أحقاد عُمرَها 1400 سَنة.

هُم يُطالبون اليَوم بإقامة هذا الإقليم أو الدولة الشيعية، ليسَ قناعة بفِكرة الفيدرالية ولمَصلحة العراق، وإنّما لأسباب طائفية لمَصلحة إيران. فالعِراق كوَطَن لا وجود له في حِساباتِهِم، وكل هَمّهم مَصلحة إيران، لأنّهُم لا يفكِّرون كعِراقيين، فالعِراق بالنِّسبة إليهم كيان مُصطَنع أنشأه الإنجليز، بَل يُفكِّرون كمُسلمين شيعة تحديداً، ويَرَون إيران قِبلة المُسلمين والشيعة وأمَلهُم المَنشود بقيام دَولة إسلامية عالمية تُسَهِّل ظُهور المَهدي الذي يَعتقِدون أنّه سَيَملأ الأرض عَدلاً ويُقيم حُكم الإسلام والشيعة في الأرض. بالتالي المُسلِم الشيعي الإيراني الذي يُشارِكهُم مُعتقَدهُم، وحُلمهم بأن تجمَعَهُم دَولة واحِدة، أقرَب لهُم مِن العراقي الكُردي والسُنّي والإيزيدي والمَسيحي الذي لا يُشارِكهُم عقيدتهم، وله رؤية مُختلفة بالحَياة لا علاقة لها بالمَهدي والدولة الإسلامية ونَيل شَفاعة الأئِمة والدخول إلى الجَنّة، بل بالاستِمتاع بالحَياة وعَيشِها لحياة بكرامة.

◄ إيران ما كانَت لتَلجأ إلى هذا المُراوَغة لولا أنها رَأت سِياسة ترامب الذي رَغم أنّه يَدّعي مُعارضَتَه لمَشروعها التوَسّعي ومِحور الشَر الذي تقوده إلا أنه عادَ بسياسة مُختلفة تُهادِن هذا المحوَر

إيران غالباً اتّخَذَت هذه الخُطوة، لسَبَبين. الأول أنها يَئسَت مِن ابتلاع كُل كَعكة العِراق، ورَأَت أن ليسَ بإمكانِها شِراء كل أكراد وسُنّة العِراق وأن بَعضهم سَيَبقى شَوكة في زورها، فقرّرَت أن تَكتفي بقَضمة كبيرة مِنها تُمَثِّل نصف العِراق وتَضُم أهَم مَوارده ومَنفذه البَحري الوَحيد، وهي ميزات لن يَنتَفِع مِنها أبناء هذا الإقليم المُنتَشون بمُخَدِّر المَذهب ونايمين وأرِجلهم بشَمس جُمهورية إيران الإسلامية، بَل سَتَصُب في خِدمة مَشروعِها وَزِيادة أوراق لعبها، فهُم سَيكونون الخاسِر الأكبر لأنّه سَيَعزلُهُم عَن مُحيطهم العَرَبي السُنِّي، وسَتَستَمِر في سَرِقة نَفطِهم وبَيعه لحِسابِها بالتَواطؤ مَع ميليشياتها كما تفعَل اليَوم، في حين سَيَستفيد أبناء كردستان والغربية مِن مَوارِدَهُم التي لم تُستثمَر بَعد، وسَيَتَحَكّمون بدجلة والفُرات. لذا حين تَنتهي إيران مِنهُم سَتَترُكهم على الحَفيظ المَجيد بعد أن تكون قد امتصت خَيراتهم وقتلت أبناءهُم كمُرتَزقة بحُروبها الخاسِرة، وسَتُعامِلهُم كما تُعامِل عَرَب الأحواز الذين رَغم أنّهُم شيعة، إلا أنها تَتعامَل مَعَهُم بطَريقة عُنصُرية لأنّهُم عَرَب وليسوا فُرساً. السَبَب الثاني هو استِشعارها لنِيّة أميركا إحداث تَغيير في العِراق، كما حَدَث في لبنان وسوريا، ويَحدُث مَع الحوثي، وبَدَل أن تَخسَر كل شَيء كما حَدَث مَع حِزب الله والأسَد، ورُبّما الحوثي قَريباً، تُريد أن تَستَبِق الأمر وتَبعَث رسالة إلى أميركا مَفادُها، أن لكِ إقليم كُردستان والغربية، ولي إقليم الوسَط والجَنوب، وهكذا أوَفِّر عَليكِ وعلى نَفسي ثَمَن المُواجَهة المُباشِرة.

طَبعاً إذا تَم إنشاء هذا الإقليم ضِمن إطار الدولة العراقية، فإنه سَيَبقى سِكّينا في خاصِرة استِقرارها واستِقلالها ونُهوضِها، وسَيُبقيها حَديقة خلفية لإيران ومَشروعها التَوَسّعي، لأن أتباعَها سَتَبقى لهُم اليَد الطولى بحُكم المَركز وقَراراتِه، وسَيَسعون لإبقاء العراقيين غارقين بالروزَخونيات، ومُخَدّرين بالزيارات والعِزيات، لِيَرضوا بالعَيش بلا ماء نظيف ولا كَهرباء ولا مُستشفيات مُتَطَوّرة ولا مَدارس حَديثة، وبمَجار طافِحة، وبتِلال الزبال تَملأ شَوارِعهُم. لذا فالحَل هو إما بتأسيس إقليم للغَربيّة يَتّحِد مَعَ إقليم كردستان بكِيان مَدعوم عَرَبيّاً، يَكون له ثقله داخِل العراق بمُواجَهَة الإقليم المُوَجّه مِن إيران، ويَمنَع أصحابَه مِن تَمرير أجِنداتها على كل العِراقيين. أو أن يَذهَب كُل لغايَتِهِ، ويَختار طَريقة عَيشِه وتحالُفاتِه، ولا يَفرُضَها على غيره كما يفعلون اليوم، وهو أيضاً خَيار يَطرَحه هؤلاء،عَليهم أن يتحملوا نتائِجَهُ التي قد تكون وبالاً عليهم وعلى أتباعِهِم.

إيران ما كانَت لتَلجأ إلى هذا المُراوَغة لولا أنها رَأت سِياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي رَغم أنّه يَدّعي مُعارضَتَه لمَشروعها التوَسّعي، ومِحور الشَر الذي تقوده مَع روسيا، وتَرجَم ذلك في ولايَته الأولى باغتيال رَأس حَربة هذا المَشروع قاسم سُليماني، إلا أنه عادَ بسياسة مُختلفة تُهادِن هذا المحوَر، بدليل ما يفعله مَع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لذا فهي تُراهِن على تغيير سياسته مَعَها، مِن المُواجَهَة إلى المُهادَنة، وليسَ بَعيداً أن يَكون لِبوتين يَد ودَور في التنسيق بَينَهُما، بَعد أن باتَ صَديق ترامب المُفضّل. خِتاماً وعَودة إلى عُنوان المَقال، إيران أرادَت كل العِراق مَلعباً لها ولمُرتزقتها ومَشروعها التوَسّعي، لكن حين فَشِلت قرَّرَت أن تُخَرّب المَلعَب بأن تَستقطِع مِنه جُزءا تلعَب به لوَحدها دون أن يُضايقَها أحَد. هنا نَسأل: هل سَيَمضي سُكان هذا الإقليم أو الدَولة المُفتَرَضة مَعَها بهذا المَشروع، كما تَفعَل أحزابهم وميليشياتهم؟ وهل سَتُوافق عليه إدارة ترامب باعتِبارها تتبَع سياسة عَدَم المُواجهة مَع أعدائِها والتفرّغ للداخِل فقط؟ أسئِلة غالباً ما سَنَسمَع أو نُشاهِد إجاباتِها خلال الأشهُر ورُبما الأسابيع القادِمة.

9