التغيير السوري وشبح السيناريو العراقي

هل تجد سوريا السلام بعد سنوات الحرب الأهلية؟ سؤال يبدو بأنه سيبقى عالقا لفترة من الزمن لتجيب عنه الأحداث. ففي غضون الأيام القليلة الماضية، وقع حدثان مهمّان أعطيا إجابات متناقضة لهذا السؤال، وجرّا البلاد، مرّة نحو المجهول، ومرّة نحو الاستقرار. الأول هو مجازر ميليشيات متطرفة محسوبة على قوى الأمن السورية التابعة لحكومة الشرع في مدن الساحل التي يقطنها العلويون، والثاني هو الاتفاق بين حكومة الشرع وقوّات سوريا الديمقراطية الكردية.
منذ تغيير نظام بشّار الأسد، وفراره إلى روسيا، وقعت هجمات فرديّة على الأقليات، سيطرت عليها حكومة الشرع عبر حظر التجوال. بقي الأمر على هذه الحالة حتى السادس من مارس عندما هاجم مسلحون موالون للأسد قوات الأمن بمحافظة اللاذقية ومواقع أخرى في عملية مخطّط لها طالت مدنيّين أيضا، لترد الميليشيات بمجازر ذهب ضحيّتها نحو 1400 شخص خلال 72 ساعة، طالت بالمقام الأول الأقلية العلوية، تبيّن أن المسؤول عنها فصيلان مسلّحان، هما نظريا تحت سلطة الحكومة لأنّهما عمليا لا يخضعان لسيطرتها، ممّا يظهر هشاشة سلطة الشرع، رغم ادّعائها الحزم ونيّتها تجاوز جراح الماضي. كذلك بيّنت الأحداث أنه لا تنبغي الاستهانة بأزلام الأسد، خصوصا وأنّهم لا يزالون يتلقّون الدعم من حلفائهم في العراق.
هذه الأحداث أثارت هاجسا لطالما أقلق الأقليات “هل سيكون بديل الأسد دكتاتورية سنيّة!”، والذي اعتاش منه نظام الأسد سنوات لتوحيد صفوفه ضد المعارضة، ويبدو أن بقاياه تسعى لتحقيقه عبر إدامة العنف. رغم وعود الشرع بحماية الدولة للأقليات، إضافة إلى تعهّده بمحاسبة المسؤولين، إلا أن المجازر أظهرت عجزه عن تحقيقها، كما أثارت حفيظة الخارج، الذي تسعى حكومته لإثبات حسن نيّتها له لإنهاء العقوبات وإعادة الإعمار.
لذا على حكومته النأي بنفسها عن هذه الأعمال وميليشيات بقايا داعش التي تنفذها، وأن تعمل على تجريدها من قوّتها، ولن يكون ذلك سهلا لأنها منتشرة بأرجاء البلاد.
◙ الشرع لا تزال لديه فرصة للسيطرة على الوضع، حتى إن استعان بالمجتمع الدولي الذي يقف اليوم ساندا ومراقبا له
نظريا تم حل الميليشيات ودمجها في الجيش، لكن سيستغرق هذا الأمر وقتا لتحقيقه على الأرض. الاستقرار لا يتعلق فقط بثبات الحكم في دمشق، فبين الجماعات الإسلامية أو بقايا الأسد انتهازيون وقتلة مشحونون أيديولوجيا، بالنسبة لهم يتعلّق الأمر ببقاء أعمالهم ومناطق نفوذهم حيث الموارد تحت السيطرة، وهو ما قاموا به لسنوات تحت عباءة الحرب الأهلية.
يبدو أن ماضي الشرع يلاحقه، رغم سعيه للتبرؤ منه. فمجموعته لها جذورها في تنظيم داعش والقاعدة، ومن الواضح أن بعضها لم تتخل عن أيديولوجيا الجهاد المتطرّفة إلى اليوم، ولتوحيد البلاد سيكون ضروريا التخلّص منها.
وقد أثبت الشرع سابقا أنه قادر على فعل ذلك، وحتى في الحاضر، كان اتفاقه مؤخرا مع قوّات سوريا الديمقراطية، ودمج أفرادها بالقوّات المسلّحة السورية، إنجازا يُحسب له، مقابل ضمانه للأكراد السوريين حقوقهم الكاملة كمواطنين.
وبعد عقود من التمييز في عهد الأسد، يعد هذا تصويتا بالثقة للحكومة الجديدة، كما يمكن لهذه القوّات أن تشكل ثقلا مقابلا للمقاتلين الإسلاميين الذين تم دمجهم في القوّات المسلّحة. بالتوازي مع هذا الأمر، تعمل لجنة خبراء عيّنها الشرع لصياغة دستور مؤقت، لكن ينبغي عدم الإفراط في التفاؤل، فقد أظهرت الأحداث الأخيرة هشاشة البنية السورية، وأهمية الحفاظ على تماسكها.
يحتاج هذا الأمر إلى حوار جدّي بين جميع السوريين حول كيفية تعايشهم معا في بلد واحد، وهكذا عقد اجتماعي يجب أن يحسم قبل الدخول في الصياغة الدستورية. ويمكن لاتفاق البنود الثماني بين الشرع والأكراد أن يكون حجر أساس له لأنه يحافظ على الوحدة الاجتماعية للبلد بأكمله، ويكرس مشاركة الجميع بغض النظر عن خلفيّتهم الدينية أو العرقية.
◙ رغم وعود الشرع بحماية الدولة للأقليات وتعهّده بمحاسبة المسؤولين، إلا أن المجازر أظهرت عجزه عن تحقيقها
إن ما جرى من إبادة بحق المئات من الضحايا الأبرياء من العلويين على يد مجاميع مسلحة تدّعي انتسابها للأجهزة الأمنيّة، في بلد لا تزال أجزاء كبيرة منه خارجة عن سلطة المركز، بحجة أنّهم من فلول الأسد، هو نفس ما يقوم به أتباع إيران بحق سنة العراق من 2003 إلى اليوم، بحجة أنّهم فلول صدام.
العلويون وأهالي اللاذقية لا علاقة لهم بما قام به الأسد، كما أن السنة وأهالي تكريت لا علاقة لهم بما فعله صدام، علما أن أغلب بعثيي سوريا وضباط مخابراته كانوا سنّة، كما أن أغلب بعثيي العراق وضباط مخابراته كانوا شيعة.
وكما لم يكن المذهب السنّي مصدرا لقوانين الدولة العراقية، لم تكن الشريعة العلوية مصدرا لقوانين الدولة السورية. وكما لم تكن مناهج النظام التعليمي العراقي مستمدة من المذهب السنّي، لم تكن مناهج النظام التعليمي السوري مستمدة من الدين العلوي، وكان بشّار وأبوه يصلّيان متكتفين بالمسجد الأموي، ولم يمارسا طقوسا دينية علوية في بيت الجمع.
لذا ما قام به شبّيحة الأسد من إبادة بحق السنة، لا يبرّر جرائم أتباع الشرع في مدن الساحل بحق العلويين. وتبرّؤ الشرع منهم لن يعفيه من المسؤولية، كما أن تبرّؤ الأسد من جرائم شبّيحته لم ولن يعفيه من المسؤولية. واستمرار استعانة الشرع ببقايا داعش من أفغان وشيشان وتُرك وإيغور، واستقوائه بهم على أبناء شعبه، لا يختلف عن استعانة الأسد بالحشد وحزب الله من عراقيين ولبنانيين، واستقوائه بهم على شعبه.
لا تزال لدى الشرع فرصة للسيطرة على الوضع، حتى إن استعان بالمجتمع الدولي الذي يقف اليوم ساندا ومراقبا له، كما حدث بمؤتمر المانحين في بروكسل، الذي تعهّد بتقديم الدعم لإعادة إعمار سوريا، رغم استنكاره للأحداث الأخيرة.
◙ أمام الشرع خياران: الأول أن يمضي بهذه الفوضى ويسير ببلاده إلى الهاوية أو السعي لبناء دولة جامعة لكل السوريين
لهذا عليه عدم تضييع الفرصة لأجل التزامات سابقة مع رعاع خارج التاريخ الذي يسعى لدخوله، لن تجلب له ولنظامه الفتي الذي يحاول تسويقه على أنه مسالم يحترم حرية المعتقد وحقوق المرأة والأقليات، سوى العار وسوء الصيت. لذا لا مبرّر لإبقاء هؤلاء ودمجهم بأجهزة الأمن، كما أن لا مبرّر لوجود الحشد ودمجه بأجهزة الأمن العراقية. فهم لا يمكن إعادة تأهيلهم، لأنهم مسكونون بالعنف والتطرّف، ولا يمكنهم العيش دون قتل الناس وانتهاك حرماتهم.
لقد شاهد السوريون كيف جرت أحداث سيناريو العراق، وماذا جرّت على العراقيين من ويلات إلى اليوم. دولة لا تنطبق عليها أي مواصفات للدولة، وشعب ممزّق ومستقطب طائفيا ودينيا لأحزاب فاسدة تنشر التطرّف وتسرق المال العام دون حسيب أو رقيب، وميليشيات مرتزقة تُنفذ أجندات خارجية وتسرق وتقتل على الهوية! هل هذا هو السيناريو الذي يريدونه لدولتهم؟ أو النموذج الذي يتمنّون أن تنتهي إليه؟ هل يريدون أن يأتي يوم يترحّم فيه السوريون على بشار، كما بات الكثير من العراقيين يترحّمون على صدام؟
أسئلة مصيرية على السوريين قيادة وشعبا أن يجيبوا عليها فعلا لا قولا بشعارات لا تطبّق على أرض الواقع. فمعارضة صدام رفعت شعارات أكثر بريقا من شعارات الشرع، ولكننا رأينا عكسها الذي كان أسوء ممّا فعله صدام! أو ربّما يفضلون نموذج أفغانستان الأكثر تطرفا، فقد شاهدنا في الأيام الماضية ما يُسمّى بسيارات الدعوة المجهّزة بمكبّرات صوت تبث أناشيد وخطبا دينية تدعو الناس إلى اعتناق الإسلام وتطبيق الشريعة الإسلامية، والتي بدأت تجوب بعض أحياء العاصمة دمشق، وتحديدا ذات الغالبية المسيحية! فإلى أين يريدون المضي ببلادهم؟
لذا أمام الشرع اليوم خياران.. الأول أن يمضي بهذه الفوضى التي نشاهدها اليوم حتى تصل به وببلاده إلى الهاوية ليلعنه التاريخ، كما سيلعن سلفه بشار، وكما سيلعن حكام العراق.. والثاني أن يثبت ما قاله في اللقاء المتلفز الذي أجراه مع قناة سي.أن.أن العربية قبل دخوله دمشق، بأنه شاب انجرف إلى التطرّف، ثم عاد إلى رشده بعد أن أعاد حساباته وفهم بأن الدول لا تُحكم بالعنف، وأن الشعوب لا تقاد بالإرهاب، ويسعى اليوم لبناء دولة جامعة لكل السوريين.