مشادة ترامب وزيلينسكي… أبعد من مجرد توبيخ

لك أن تتخيل كيف كانت ردة فعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو يشاهد “التوبيخ” الذي وجهه الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض؛ لا أستبعد أن بوتين قد أعاد مشاهدة الفيديو عدة مرات، مبتسمًا بسخرية تُنفِّس عنه بعضًا من القلق والتوتر اللذين رافقاه طيلة أشهر الحرب، خاصة بعد أن قدَّم ترامب استعراضًا لم تتمكن البروباغندا الروسية من مجاراته.
بذلك الاستعراض الخشن للعضلات أمام ضيفه المرتبك، لم يكتفِ ترامب بتوبيخ زيلينسكي؛ لقد أهان جميع الحلفاء الغربيين الذين راهنوا على وضع حد لنزعة بوتين التوسعية، وذهب أبعد من ذلك عندما قال إن كل ما حدث في أوكرانيا كان بسبب غباء جو بايدن. لكن جنون ترامب يجعله يتناسى أن أوكرانيا كانت ولا تزال في وضع المدافع، وروسيا لطالما كانت في وضع المهاجم قبل عام 2022 بكثير. باختصار، لقد بدا زيلينسكي أشبه بمن يحاول أن يحفظ ماء الوجه في هذا اللقاء بعد أن تحول ترامب إلى محامي دفاع ناطق باسم الروس.
لم يكن زيلينسكي أمام رئيس كلاسيكي يراعي أخلاقيات الخطاب الدبلوماسي وأبجديات التواصل بين القادة أو الزعماء. لقد كان لقاؤه أشبه بمواجهة “بوتين أميركي” مستعد لالتهام خصمه بلقمة واحدة وغير مكترث لفعل ذلك أمام عدسات الكاميرا. كان من الصعب على زيلينسكي الحفاظ على ما تبقى من ثباته الانفعالي واستمراره في “المبارزة” بجمل مقتضبة أمام ترامب المتنمر.
◄ بذلك الاستعراض الخشن للعضلات أمام ضيفه المرتبك، لم يكتفِ ترامب بتوبيخ زيلينسكي؛ لقد أهان جميع الحلفاء الغربيين الذين راهنوا على وضع حد لنزعة بوتين التوسعية
ترامب، بأسلوبه الفج، لم يترك مجالًا لأي دبلوماسية، متهمًا زيلينسكي بـ“المقامرة بحرب عالمية ثالثة”، وملوحًا بتقليص المساعدات. هذا التصعيد ليس مجرد زلة لسان، بل انعكاس لتحول إستراتيجي في طريقة تعاطي واشنطن مع الأزمة الأوكرانية، وإن كان هذا الانعكاس ليس وليد اليوم بل بمجرد أن تم الإعلان عن نتائج الانتخابات الأميركية التي عاد فيها ترامب إلى البيت الأبيض.
بالنسبة إلى بوتين هذه التطورات ما هي إلا دليل على صحة رهانه الطويل: الانتظار حتى يحدث التغيير في الإدارة الأميركية. وإذا كان زيلينسكي قد خرج مهزوزًا من لقائه مع ترامب، فإن كل القادة الأوروبيين قد أصبحوا متخوفين على مصير الشراكة التاريخية بين أوروبا وأميركا التي جعلها ترامب في أسوأ حالاتها.
القادة الغربيون كانوا مستعدين لهذه اللحظة التي يعلن فيها المقيم الجديد في البيت الأبيض انحيازه للخيارات غير المكلفة والانسحاب من معركة تبديد الأموال في دعم أوكرانيا بالسلاح، ويدركون جيدًا أن زحف بوتين نحو كييف لا يهم ترامب بقدر ما يهمه إيقاف زحف الصين نحو الأسواق العالمية مستفيدة من هذا السياق العالمي المضطرب. ومع ذلك، لا يبدو أنهم مستعدون لملء الفراغ بعد أن أدارت لهم أميركا ظهرها، وقد يكون من المعقول أن يفكروا من الآن في منفذ تفاوضي يقلل الأضرار ويحفظ ماء الوجه.
تنتظر الأوروبيين أيام صعبة بعد أن ضاقت خياراتهم أمام إصرار ترامب على جرهم نحو طاولة المفاوضات التي تستجيب للمصالح الأميركية والروسية دون غيرها. المسألة باتت اليوم مرتبطة بهواجسهم الأمنية أكثر من أي شيء آخر بما أنهم لن يكونوا قادرين على تحمل العبء المالي والعسكري دون مشاركة أميركية. ونجاح ترامب في إيقاف الحرب بهذه السذاجة والسطحية دون مراعاة التعقيدات السياسية والعسكرية والاقتصادية المرتبطة بالصراع، يعني تمكين الروس من التقاط أنفاسهم ربما لسنوات ثم التفكير في إعادة الزحف نحو كييف أو نحو عواصم أوروبية أخرى.
في مارس 2023 وعدنا ترامب بإنهاء الحرب في أوكرانيا في غضون 24 ساعة من تنصيبه في حال فوزه من دون أن يشرح تفاصيل الوصفة السحرية لذلك. لكنه بمرور الأيام والأسابيع أبان بوضوح عن تفاصيل الصفقة التي ستؤدي إلى إخراج الروس منتصرين معنويًا في هذه الحرب. ورغم كل المؤشرات الإيجابية التي يخبرنا ترامب بوجودها، لا نزال غير قادرين على تلمس الضوء في نهاية النفق.