بين السلاح والسياسة.. جنين أمام معادلة معقدة

مع استمرار التصعيد الإسرائيلي وتزايد الغضب الشعبي يصبح الحفاظ على التوازن بين الأمن والاستقرار وحق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم مهمة شديدة التعقيد.
الجمعة 2025/02/28
سياسة الهدم سلاح لفرض السيطرة

تتصاعد الأحداث في جنين مجددًا، مع تزايد عمليات الهدم التي تنفذها قوات الاحتلال الإسرائيلي، تحت ذريعة احتواء بعض المنازل على أسلحة أو إيواء مطلوبين. هذا المشهد ليس جديدًا على المدينة التي لطالما كانت في صدارة المواجهة، لكنه اليوم يأخذ أبعادًا أكثر تعقيدًا، خاصة في ظل موقف السلطة الفلسطينية، التي تجد نفسها مضطرة للتعامل مع واقع سياسي وأمني صعب، يفرض عليها قرارات قد لا تحظى بقبول شعبي واسع، لكنها في النهاية تأتي ضمن حسابات دقيقة تحكمها الظروف والمعطيات.

ليس خافيًا أن إسرائيل تستخدم سياسة الهدم كأحد أسلحتها الأساسية في فرض السيطرة على الضفة الغربية، فهي تدرك أن العمليات العسكرية وحدها لا تكفي لإخماد جذوة المقاومة، ولذلك تلجأ إلى إستراتيجية العقاب الجماعي، عبر تدمير المنازل وتشريد العائلات، لخلق حالة من الردع النفسي، ولإرسال رسالة واضحة مفادها أن أيّ دعم للمقاومة ستكون له تبعات قاسية على المستوى الشخصي والجماعي.

قد يختلف البعض مع سياسات السلطة، وقد يطالبونها بمواقف أكثر صلابة، لكن يبقى السؤال الأهم: ما الذي يمكن تحقيقه على أرض الواقع في ظل ميزان القوى الحالي؟

لكن في المقابل، أثبتت التجربة أن هذه السياسة لم تنجح في تحقيق أهدافها، فبدلًا من أن تؤدي إلى خفض مستوى المواجهة، فإنها تزيد من الاحتقان، وتدفع بالمزيد من الشباب للانخراط في العمل المسلح، في ظل قناعة متزايدة بأن الاحتلال لا يفرّق بين مقاوم ومدني، وأن الاستهداف بات يشمل الجميع دون استثناء.

في ظل هذا المشهد، تواجه السلطة الفلسطينية معادلة بالغة التعقيد. فمن جهة، هي مطالبة بالحفاظ على استقرار الأوضاع ومنع الانزلاق إلى حالة من الفوضى التي قد يستغلها الاحتلال لفرض المزيد من القيود، ومن جهة أخرى، تجد نفسها في مواجهة انتقادات داخلية متزايدة، تتهمها بعدم اتخاذ موقف أكثر حزمًا تجاه ما يحدث في جنين.

توصيات أجهزة الأمن الفلسطينية للمواطنين بعدم الاحتفاظ بأسلحة في منازلهم أو إيواء مطلوبين قد تبدو للبعض وكأنها استجابة للضغوط الإسرائيلية، لكنها في الواقع تأتي في سياق رؤية أمنية تهدف إلى تقليل الذرائع التي يستخدمها الاحتلال لتنفيذ عمليات الهدم والاقتحام، فضلًا عن تأكيد دورها كجهة قادرة على ضبط المشهد الأمني والحفاظ على الاستقرار في المناطق التي تخضع لسيطرتها، فبقاء السلطة فاعلة وممسكة بزمام الأمور يعزز من موقفها السياسي ويمنحها قدرة أكبر على المناورة في ظل تعقيدات الواقع الميداني.

لطالما شكل مخيم جنين نقطة توتر دائمة في المشهد الفلسطيني، حيث يتقاطع فيه العمل المسلح مع التحديات السياسية والأمنية التي تواجهها السلطة الفلسطينية. وفي ظل استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية وتوسع الاستيطان، يرى البعض أن خيار المقاومة المسلحة في المخيم يمثل رد فعل على غياب الحلول السياسية الفاعلة، بينما يعتبره آخرون عاملاً يزيد من تعقيد موقف السلطة الفلسطينية، التي تجد نفسها أمام تحديات داخلية وخارجية متزايدة. على الصعيد الدولي، تستغل إسرائيل هذا الواقع لتعزيز روايتها بأن مشروع دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة على أراضيها قد يتحول إلى مصدر تهديد أمني، وهو ما يضعف موقف السلطة في المحافل الدولية.

لا يمكن تحميل السلطة وحدها مسؤولية هذا الواقع، فالمعادلة أكبر من قدرتها على التحكم بها بشكل كامل، بالنظر إلى أن الاحتلال هو الفاعل الرئيسي

في المقابل، يشير مؤيدو المقاومة إلى أن استمرار السياسات الإسرائيلية، بما في ذلك الاجتياحات والاعتقالات، هو السبب الرئيسي في تصاعد المواجهة، وأن غياب أفق سياسي واضح يدفع بعض الفصائل نحو تبني المقاومة المسلحة كخيار وحيد للدفاع عن حقوقها بغض النظر عن التكلفة التي تترتب على أي عمل مسلح من الناحية المادية والسياسية.

لا يمكن إنكار أن الوضع في جنين يعكس أحد أكبر التحديات التي تواجه السلطة الفلسطينية اليوم، فمع استمرار التصعيد الإسرائيلي وتزايد الغضب الشعبي، يصبح الحفاظ على التوازن بين الأمن والاستقرار من جهة، وحق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم من جهة أخرى، مهمة شديدة التعقيد. ولذلك، لا يمكن تحميل السلطة وحدها مسؤولية هذا الواقع، فالمعادلة أكبر من قدرتها على التحكم بها بشكل كامل، بالنظر إلى أن الاحتلال هو الفاعل الرئيسي في هذه المعادلة، بينما تحاول السلطة المناورة ضمن هامش ضيق للحفاظ على ما تبقى من مقومات الصمود وعلى قنوات الاتصال الرسمية مع المسؤولين الغربيين والعرب المعترفين بشرعية السلطة كممثل وحيد للفلسطينيين والداعمين لمبدأ حل الدولتين وفقا للشرعية الدولية.

قد يختلف البعض مع سياسات السلطة، وقد يطالبونها بمواقف أكثر صلابة، لكن يبقى السؤال الأهم: ما الذي يمكن تحقيقه على أرض الواقع في ظل ميزان القوى الحالي؟ وما هي الدروس المستخلصة بعد عقود طويلة من الكفاح المسلح سواء تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية أو حركة المقاومة الفلسطينية حماس؟ ألا تعد المقاومة الدبلوماسية هي الخيار الوحيد المتاح الذي يجنب الفلسطينيين المزيد من التكاليف الباهظة؟ علينا أن نجيب على هذه الأسئلة بموضوعية بعيدا عن الانحياز ومنطق التخوين لنفهم حقيقة واقعنا.

8