تظليل المعلومات يمنح ترامب فرصة لترويج مخططاته

دول الخليج ليست مستعدة لدفع أموال طائلة لإعادة الإعمار ثم تأتي حرب أخرى بين إسرائيل والفلسطينيين تلتهم القطاع وتهدم مساكنه.
الأحد 2025/02/23
خيارات محدودة

أحدثت تصورات الرئيس الأميركي دونالد ترمب رجة كبيرة في النظام الدولي، وأدت مقارباته تجاه بعض القضايا الإقليمية والدولية إلى حالة أقرب إلى التوهان، لأن المعلومات التي تفوّه بها والسياسات التي أعلن عن تبنيها طغت عليهما ظلال وألوان يصعب تحديد فواصل الحقيقي فيها من الزائف. وهي أشبه بوفرة في الرمادية التي أصبحت طاغية في التفاعلات الدولية.

ويستطيع كل طرف تفسيرها وفقا لرؤيته وحساباته ومصالحه، إن إيجابا أو سلبا، من دون أن يقطع ترامب بتبني شيء محدد. كل ما يتبناه يندرج في إطار التظليل المفتوح على احتمالات مختلفة، من بينها التراجع والتخلي.

ألقى الرئيس الأميركي بكرة لهب في ملعب أزمتين حادتين. هما قطاع غزة، والحرب بين روسيا وأوكرانيا. وفي كل منهما قدّم الرجل وفريقه المعاون رؤى غير مألوفة، وربما صادمة للكثيرين. في ملف غزة اقترح توطين سكان القطاع في مصر والأردن، وجعل غالبية الدول العربية تصاب بحيرة، فالقبول يعني ضياع القضية الفلسطينية تماما وربما الاقتراب من الوقوف في صف اليمين الإسرائيلي الذي وجد في فكرة ترامب حلا حاسما وخلّاقا وهدفا لم تستطع إسرائيل تحقيقه خلال حربها على مدار خمسة عشر شهرا في غزة.

◙ ضمان عدم وجود دور لحماس ينزع من إسرائيل ذريعتها، ويحرم ترامب من ممارسة هوايته في التعامل مع الملفات بطريقة الصدمة

ويعني رفض ما روّج له ترامب ومعاونيه إمكانية حدوث صدام مع الإدارة الأميركية الجديدة، وفي أحسن الأحوال يتطلب تقديم رؤية بديلة لما قدم بشأن التوطين. وهو اختيار تعمل عليه الدول العربية ويواجه تحديات كبيرة. فدول الخليج العربي الغنية ليست مستعدة لدفع أموال طائلة لدعم خطة إعادة إعمار غزة وتتكلف نحو 50 مليار دولار ثم تأتي حرب أخرى بين إسرائيل والفلسطينيين تلتهم القطاع وتهدم مساكنه، ما يفرض وضع خطط لا تؤدي إلى اندلاع الحرب أو قيام المقاومة بعملية ثانية تصدم إسرائيل.

باختصار ضمان عدم وجود دور لحركة حماس ينزع من إسرائيل ذريعتها لشن هجوم جديد على غزة في أيّ وقت، ويحرم الرئيس الأميركي من ممارسة هوايته في التعامل مع ملفات حيوية بطريقة الصدمة والرعب، سواء تلك التي تنطوي على رغبة قوية في التنفيذ، أو التي يتراجع عنها. فقد سمح عدم تمسكه بخطة التوطين وإعلانه أنها مجرد توصية، بمنح معارضيه فرصة لمواصلة الضغط عليه، والاستفادة من المساحة الكبيرة الغامضة.

تدعم هذه النتيجة مسار التظليل الذي صكه ترامب وهو يعلم أنه سيحدث ارتباكا في دول ومنظمات دولية عديدة، ويمكنه من توظيفه في تحقيق أهدافه الخفية. ومهما كانت طبيعة الرؤية أو الخطة التي ستعرضها مصر أمام القمة العربية الطارئة بالقاهرة في الرابع من مارس المقبل، فهي لن تلغي مقترح ترامب، بعد أن تحول إلى سقف مرتفع في إسرائيل ربما يقاس عليه الوضع في غزة مستقبلا، وقد يعود إليه الرئيس الأميركي في أيّ لحظة. فمن خلال الديناميكيات المفاجئة في حالتي الصعود والهبوط لا أحد يضمن خطوته المقبلة.

ولا تختلف رؤية ترامب في حرب روسيا وأوكرانيا في مقدماتها عن غزة كثيرا. ويكمن الاختلاف في بعض التفاصيل والتطورات، فقد حدثت صدمة في كييف ودول الاتحاد الأوروبي تشبه ما حدث مع الفلسطينيين والدول العربية، ولا تزال كييف وعدد كبير من العواصم الغربية تسعى لاستيعاب توجهات ترامب، والتعاطي معها بما يجنبها الصدام مع واشنطن، وتقديم خطط بديلة تنزع عمّا يريده الكثير من الأشواك.

تحرك الرئيس الأميركي بسرعة فائقة في هذه الأزمة وقام باتصالات ومناقشات وحوارات مع روسيا في الرياض، وأهمل أوكرانيا، وترك رئيسها فولوديمير زيلينسكي في حيرة من أمره، لا يعلم موقعه حتى الآن في المعادلة الرئيسية التي صاغها ترامب، ولا يعرف نتيجة الخلاف مع واشنطن إلى أين سوف يقوده، لأن الاتفاق المطلوب حول ثروات أوكرانيا يراه زيلينسكي مدمرا لبلاده. كما يفقد بموجب توجهات ترامب جزءا من الأرض لصالح روسيا، ويقطع الطريق على كييف تماما للانضمام إلى حلف الناتو، ويجعل الأصدقاء لا يعلمون كيف يتصرفون مع الطوفان الأميركي الذي يحمل التباسات متعددة.

يتبع الرئيس ترامب منهجية ليست اعتباطية، إذ يريد تغيير قواعد اللعبة على الساحة الدولية، وما تتمخض عنه أزمتا غزة وأوكرانيا سوف يكون بوصلة لما يمكن أن يحدث في أزمات أكبر أو أقل. والمشكلة أن الرجل يتصرف بسرعة فائقة ولا يعطي لخصومه والرافضين لمنهجه فرصة للتفكير والمراجعة، لأنه دخل حلبة الرئاسة هذه المرة وهو جاهز لها، بخلاف المرة الأولى التي دهسته فيها مؤسسات الدولة العميقة.

◙ رؤية ترامب لا تختلف في حرب روسيا وأوكرانيا في مقدماتها عن غزة كثيرا ويكمن الاختلاف في بعض التفاصيل والتطورات

قد تستوعب بعض الدول عملية التظليل التي وضعها ترامب عمدا في مقدمة عربته التي يريد بها قيادة العالم، لكن غالبية الدول لا تزال في حالة من الدهشة، وغير قادرة على التعامل معها وفهم أبعادها الإستراتيجية، لأنها تسعى نحو إجراء تحولات يقود نجاحها إلى ترسيخ منهج ترامب، وقد يفضي الفشل إلى فوضى وليس وقفها، فما حدث من هزات يشير إلى أن هذا المنهج له جذور داخل الولايات المتحدة وخارجها.

كل من يريدون أو يحلمون بتغيير وجه الأوضاع لن يعارضوا منهج ترامب، ويعملون على توفير بيئة مناسبة لنجاحه، باعتباره يزيل من المشهد العام قوى ورثت دورها عبر التاريخ وليس لامتلاكها قدرات نوعية خاصة، وإعادة هندسة العلاقات وفقا لقواعد رسمها مسبقا في مخياله.

وإذا واصل الرئيس الأميركي في تصرفاته التي رأينا منها معالم بسيطة في غزة وأوكرانيا قد يتغير وجه العالم الذي عرفناه على مدار نحو ثمانية عقود، وبعيدا عن القبول والرفض فهي في حاجة إلى المزيد من الوقت لاستيعابها وهضم تداعياتها.

يرمي ترامب إلى توجيه أنظار العالم نحو ما يريده من تحولات نوعية وغير تقليدية، ما جعل قياسات ما سوف تسفر عنه تصوراته صعبة، لأن التظليل الذي يكتنفها لا يسمح بوجود استشفاف دقيق لنتائجها، فرفع مستوى المطالب في أزمتي غزة وأوكرانيا، إلى جانب أزمات أخرى أدلى برأيه فيها مثل جزيرة جرينلاند وقناة بنما والعلاقة مع كندا والمكسيك، يؤكد أن ترامب مسكون بأفكار جديدة يقود تنفيذها إلى تحولات كبرى في العالم.

ومع أن التأييد المعلن الذي يحظى به ترامب محصور في جمهوره اليميني في الولايات المتحدة وإسرائيل، لكن هناك دول وجمهور غير معروفين بدقة يمكن أن يسيرا خلفه، وينحصران في من سئموا الصيغة الحالية لتوازنات القوى القائمة على الخارطة التي تم رسمها بعد الحرب العالمية الثانية، حيث توجد قوى بزغت وأخرى يجب أن تختفي، وهو ما يشي بأن تظليل المعلومات عند ترامب يحمل الكثير من المفاجآت.

 

اقرأ أيضا: 

ينبغي على الدول العربية أن توقف ترامب ونتنياهو عن مسارهما

4