الإفصاح عن مشاعر الحب علنا ممنوع باسم العيب والفضيلة

تزيد معايير المجتمع العربي وفي مصر تحديدا من صعوبة فكرة التعبير العلني عن المشاعر الإيجابية من حب واهتمام وتقدير وامتنان بين الأزواج خصوصا، بسبب ثقافة العيب وادعاء الفضيلة فيصبح كل من يتجاوز هذه القيود ملاحقا بتهمة خدش الحياء.
القاهرة - ما أن انتشرت صورة لمعلمة مصرية وهي تقبل يد زوجها مدير المدرسة، داخل مكان العمل في حضور زملاء الطرفين، حتى تحوّلت الزوجة إلى متهمة من فئات مجتمعية عدة بارتكاب فعل مشين، مصنّف من الأغلبية على أنه معيب، بزعم أنه لا يحق للمرأة المجاهرة بالعاطفة تجاه شريك حياتها أمام الناس، ما دفع السلطات التعليمية إلى إحالة الزوجين للتحقيق ومعاقبتهما.
وأكدت تلك الواقعة، وإن كانت عفوية وغير مقصودة، إلى أيّ درجة أصبحت ثقافة العيب متجذرة في المجتمع المصري، مهما كانت المبررات، منطقية أم لا، بعدما سيطرت عادات وتقاليد وأعراف بالية على عقول شريحة في المجتمع، تتعامل مع العلاقة الزوجية داخل إطار محدد ولا يجوز لأيّ طرف الخروج عن قواعده.
هناك من وصف تصرف الزوجة بالمثالي لأنها أظهرت حجم امتنانها ومودتها وعاطفتها ناحية شريك حياتها، لكن مالت غالبية الأصوات لتصنيف الواقعة على أنها خروج عن العرف المجتمعي، بحجة أن بيت الزوجية هو المكان الوحيد الذي يجب أن يتبادل فيه الطرفان تلك القبلة على ظهر اليد، مع أن المرأة فعلت هذا التصرف لأن زوجها كان عاد للتو من رحلة مرض طويلة.
وباتت تهمة خدش الحياء عند فئة من المواطنين تطارد كل من يحاول التغريد خارج السرب، سواء أكانوا كبارا أم صغارا، وإن بلغت بساطة التصرف قيام رجل بالإمساك بيد امرأة أو العكس، وقد تربطهما علاقة عاطفية أو زوجية، ومهما امتلك الطرفان من تفسيرات منطقية، فإنهما لا يسلمان من تلصص من ينصبون أنفسهم حماة للأخلاق.
وما جعل واقعة تقبيل يد الزوج تأخذ منحنى متصاعدا من الجدل المجتمعي أن كليهما يعيش في بيئة ريفية تقدس العادات التي تحظر على كل من الرجل والمرأة القيام بتصرف خارج المألوف، أو يتناقض مع التقاليد التي تفرض على الزوجين أن يتعاملا معا خارج المنزل بطريقة شبه رسمية ومنضبطة وعدم المجاهرة بتصرف عاطفي.
وأظهر تعاطي السلطات التعليمية مع الموقف أن ثقافة العيب داخل المجتمع المصري لم تعد قاصرة فقط على المواطنين العاديين بقدر ما انتقلت إلى بعض المؤسسات المدنية نفسها، حيث استسلمت مديرية التربية والتعليم بالمحافظة التي شهدت هذا الموقف الإنساني للجدل الذي صاحبه، وقررت التحقيق مع الزوجين ومعاقبتهما، ونقلهما من محل عملهما إلى مكان آخر بعيد.
وبرر مسؤولون تلك العقوبة بأن المجاهرة بالعاطفة بين الزوجين خروج عن مقتضيات الواجب الوظيفي، وهي نظرة ضيقة، كما هو حال من استسلموا لعادات عفا عليها الزمن، ويحاولون فرضها على فئات أخرى، بما فيها أجيال صاعدة من الشباب والفتيات يواجهون صعوبات بالغة في التحرر من رقابة المجتمع أو تلصصه عليهم.
ويرى متخصصون في العلاقات الاجتماعية أن التماهي الحكومي مع الانغلاق الفكري والثقافي لشريحة كبيرة من الناس يكرس الرجعية ويقطع الطريق أمام دعوات تحاول التمرد ضد ثقافة العيب، وهذه إشكالية تحول دون تحرر الأجيال المنفتحة من الوصاية، خوفا من الاتهامات التي تطالهم بارتكاب فعل فاضح يستدعي العقاب.
وجزء من المشكلة أن هناك تيارا يتعامل مع مجاهرة الزوجة لشريكها بالمودة والعاطفة على أنه انكسار، وإذا حدث ذلك من الزوج قد يُتهم بضعف في مكونات الرجولة التي تفرض عليه أن يكون خشنا ولا يهبط إلى مستوى الاحتياج العاطفي بما يجعله ضعيفا أو مستسلما، باعتبار أن إظهار المحبة للزوجة إن لم يكن عيبا فهو ضد الوقار.
وظهر ذلك بشكل واضح في تعليقات الكثيرين على واقعة تقبيل المعلمة ليد زوجها المعلم أيضا، وتعامل البعض مع الموقف على أن المرأة التي تُظهر الامتنان لشريكها أمام أعين الناس ضعيفة ومنكسرة، دون إدراك أن مثل هذه التصرفات العفوية انعكاس لعلاقة أسرية طيبة يفترض أن يتم التعامل معها كقدوة حسنة بعيدا عن الاتهام بالفسق.
وترد شريحة مجتمعية متحضرة فكريا بأن المجاهرة بالعاطفة بين الشريكين على مرأى من الناس قد تُحدث تأثيرا إيجابيا في حياة أزواج آخرين تسلل إليهم الملل والنمطية وأصاب الجفاء علاقاتهم العاطفية وصاروا يعانون من الخرس الزوجي أو الإخفاق في التعبير عن المحبة، وهو من المسببات الرئيسية لارتفاع معدلات الطلاق في مصر.
وقالت نهى عادل مدربة أسلوب الحياة لـ”العرب” إن “الغضب المجتمعي من المجاهرة بالعاطفة يتناقض مع دعوات التحضر، فقد تابعت الجدل المصاحب لواقعة الزوجة التي قبّلت يد شريكها ولم أستوعب بعد لماذا كل هذا الغضب، وكيف أصبح المجتمع يكيل الاتهامات إلى هذا الحد ليصبح متورطا في ارتكاب فعل خادش للحياء.”
وأضافت أن التعبير عن المودة بين الزوجين أمام الناس تصرف حميد، لكن المثير للانتباه أن شريحة من المعترضين يغضون الطرف عن مشاهد تعج بها شبكات التواصل الاجتماعي وكلها أفعال خادشة للحياء، ما يوحي بوجود فئة لديها “انفصام شخصية” أو صراع مع النفس أو مشكلة مع طرف يحاول كسر الأعراف بإيجابية.
كما أن التعبير عن المشاعر أمام الناس يعزز الثقة بالنفس وهذه ثقافة مجتمعية غائبة، وإذا أقدم أحد على فعلها يتعرض لاتهامات كأنه يتعمد الخروج عن الصف العام، وهذا يعكس حجم الانغلاق الفكري عند البعض، ويثير البعض الآخر لمجرد أنهم عاجزون عن فعل التصرف نفسه، ما يجعلهم ينظرون إلى الموقف بريبة وإن كانوا مقتنعين به.
وتدعم شريحة من الأجيال الشابة فكرة إضفاء الحيوية على العلاقات الأسرية بتصرف أو موقف يُظهر المودة والمحبة، ولو كان المجتمع نفسه يُعارض ذلك، لأن الاستسلام للوصاية التي يحاول الآخرون فرضها يجعل العلاقات الاجتماعية محكومة بإطار ضيق تحكمه أعراف بالية، ما يُكرّس الجمود العاطفي ويدفع المجتمع ضريبة باهظة من خلال زيادة معدلات الطلاق.
وما يؤكد صواب وجهة النظر هذه أنه في نهاية العام الماضي صدرت عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر، إحصائيات كشفت أن حالات الطلاق الرسمي ارتفعت ويعود جزء منها إلى ما يوصف بالخرس الزوجي، وعدم التعبير عن المشاعر بشكل إيجابي، ووصلت إلى قرابة تسعة آلاف حالة، وهي إحصائية يمكن البناء عليها للوقوف على مدى إيجابية المجاهرة بالعاطفة ولو كانت الأغلبية المجتمعية متحفظة.
وأكدت محاسن صابر من مؤسسة “مطلقات راديو” في مصر وجود حالات انفصال كثيرة تقع بسبب إخفاق الزوجين في التعبير عن مشاعرهما، والجمود الذي كرسته الأجواء حولهم، فهناك زوج قد يستمر لسنوات مع شريكته دون أن يُظهر لها مشاعر المحبة والامتنان، على شكل قُبلة على اليد أو الرأس، لا أمام الناس أو في المنزل.
وأوضحت لـ”العرب” أن المجتمع المصري جلّاد بطبعه ويُحرّم على أفراده أن يُظهروا مشاعرهم، والاستسلام لتلك الوضعية له تأثيرات سلبية على التماسك الأسري والمجتمعي، معقبة “في البداية يكون الزوجان محرجين أمام عائلتهما ثم أولادهما ثم أمام الناس، لتكون النتيجة صمتا إرضاء لوصاية الآخرين.”
ولأن ثقافة العيب متجذرة، باتت هناك شريحة مصابة بالخجل العاطفي تربت ونشأت على أن المجاهرة بالمشاعر من الأمور التي لا تصح، والأفضل أن يكون ذلك في الخفاء بعيدا عن أعين الناس، خشية ردة الفعل السلبية أو التعرض لتلاسن لفظي قد يطال أخلاقيات الطرفين، مع أن التصرف لا يتجاوز الكلمات الطيبة.
وما تعرضت له الزوجة سهير مصطفى خير دليل. فهي حاولت أن تفاجئ شريك حياتها في عيد ميلاده، حيث يعملان معا في نفس المكان، وقامت بدعوة المقربين من الزملاء والأصدقاء، وأعدت لهذا اليوم ودخلت إلى مكتبه صبيحة ذكرى ميلاده وهي تحمل الهدايا والحلوى، لكن صدمها بردة فعله، إذ تعامل معها بطريقة تحمل قدرا من الجفاء.
وكشفت الزوجة لـ”العرب” أنها لم تكن تصدق ردة فعل الزوج، لكن بعد فترة من الخصام والقطيعة صارحها بأنه خجل من مجاهرتها بالعاطفة أمام الناس، ولم يعتد على ذلك، خشية أن يتم ترديد كلمات وعبارات مسيئة لهما كزوجين، وهي مبررات لم تتقبلها الزوجة وعكست تأثير العرف المجتمعي وانتشار ثقافة العيب.
وتابعت “للأسف لم أستطع تغيير زوجي، أو أفكر في تكرار المفاجأة السعيدة له أمام الناس مرة ثانية، بعد أن تأكدت من أنه لا يفضل أن نكون متقاربين بشكل علني، تجنبا للتعليقات ‘السلبية‘، وكل ذلك نتيجة الخوف من المجتمع بشكل يجعل حياة بعض الأزواج خالية من التجديد والمواقف الحسنة التي تعيد إحياء العلاقات مرة أخرى.”
ويرى خبراء أن بعض المجتمعات العربية تعاني من الجمود العاطفي لأن أصوات من يرتدون ثوب الفضيلة أعلى من صوت التحرر والانفتاح، وهو ما يفسر ثورة الغضب ضد كل من يحاولون التعبير عن مشاعرهم بتقدير واحترام بلا تجاوز للأعراف والتقاليد، وهذا يرجع إلى طبيعة التربية نفسها التي صارت تحكمها ثقافة العيب.
ودعمت استشارية العلاقات الأسرية في القاهرة زينب أحمد تلك الرؤية بتأكيدها أن الكثير ممن يغضبون من المجاهرة بالمشاعر لم يذوقوا طعم الحب من أسرهم أو يشاهدون آباءهم يتبادلون العاطفة، وتربّوا على العنف والاعتداء اللفظي، ولو تمت تربيتهم في بيئة تحيطها المودة لشبّوا على التعبير عن المحبة بشكل علني، وأن ذلك أمر طبيعي ومطلوب باستمرار.
وأشارت في تصريح لـ”العرب” إلى أن العبرة في شخصية كل فرد داخل المجتمع ومدى تمتعه بالجرأة والشجاعة على القيام بتصرف يعبّر من خلاله عن الامتنان والتقدير والحب، بغض النظر عن ردة فعل الآخرين، وهذا يرتبط بأسلوب التنشئة داخل الأسرة، ومن الخطأ اختزال تقويم السلوك في العيب والحرام، لأنه يورّث عرفا رجعيا.
والقضاء على ثقافة العيب المرتبطة بعلانية المشاعر والعواطف داخل أيّ بيئة ليست مهمة مستحيلة، فالأجيال الجديدة لديها عداء لما يرتبط بالوصاية الأخلاقية، وهو ما يجب البناء عليه توعويا للتغيير التدريجي وتصبح المجاهرة بالعاطفة ثقافة مجتمع.