إيجابيات "الثرثرة" الترامبية للتهجير أكثر من سلبياتها

تفاعل مقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن تهجير سكان قطاع غزة إلى مصر والأردن، مع مستويات عديدة، ليست جميعها سلبية كما يعتقد البعض، ويمكن أن تخرج منه جوانب إيجابية، عربيا وفلسطينيا ومصريا وأردنيا، إذا أحسن توظيف المقترح سياسيا والتعامل معه كبوابة لإيجاد حلول عملية للقضية الفلسطينية، وأن التهجير لن يمثل مسارا ناجحا لواشنطن، وسوف يزيد الأمور تعقيدا، وقد يعمل ضد مصالح إسرائيل التي تراه وسيلة جيدة لتتخلص من عبء فلسطيني ثقيل.
وقد استضافت القاهرة اجتماعا على مستوى وزراء الخارجية العرب، السبت، لمناقشة ملفات خاصة بالقضية الفلسطينية وتداعيات الحرب على غزة، وأبرزها المقترح الترامبي المتعلق بالتوطين، وكيفية التعامل معه بحكمة سياسية، وهو طريق يوفر دعما عربيا لمصر والأردن، ويشعر الإدارة الأميركية أن تنفيذه يواجه بمعوقات، ويلحق أذى بما يريده للمنطقة من ترتيبات عندما يصمم على فرض أجندته بالقوة.
وخرجت خطة ترامب من رحم أبحاث عدة، قامت بها مؤسسات أميركية وإسرائيلية على أهالي غزة قبل الحرب، بينها دراسة قالت إلى نحو 32 في المئة من سكان القطاع يريدون مغادرتها، ومن بين الجهات التي رغب غالبيتهم الذهاب إليها الولايات المتحدة وكندا وفرنسا، وليس مصر والأردن، وهو ما تجاهله ترامب إذا كانت هذه الدراسة جزءا من خطته، ونسي أنه يحارب الهجرة في بلاده ويسعى لشحن مكسيكيين في طائرات وقوافل لإعادتهم إلى بلدهم، لكنه يريد اقتلاع مواطنين فلسطينيين من جذورهم وأرضهم ونقلهم إلى دول أخرى قسريا.
◄ ترامب دق جرس إنذار للدول العربية، حيث يفرض عليها مقترحه التوافق حول رؤية للسلام تتواءم مع المستجدات الراهنة، وتربطه بأيّ ترتيبات تريدها الإدارة الأميركية للمنطقة
تنطوي هذه الازدواجية على إشارة بأن الرجل يبحث عن حلول ولا يملك رؤية واضحة لما يقدمه، ما يحمل إيجابية للدول العربية المعنية، في مقدمتها مصر والأردن، لتقديم بدائل مختلفة، وهو ما أشار إليه أحد المسؤولين في إدارة ترامب قبل أيام، ولا يعني تكرار الحديث عن التوطين أنه بات صكا أو فرمانا يجب الالتزام به.
وإذا كان يحمل أيا من الصفتين، فهو جزء من شخصية ترامب المتغطرسة، وظهرت ملامحها في تعامله مع المكسيك وكولومبيا وكندا وبنما والدنمارك، ولم يخص بها مصر والأردن، كما أنه يريد الوفاء بتعهدات قطعها لإقناع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بوقف الحرب في غزة، وتهدئة خواطر اليمين المتطرف الذي يقوده وزير المالية سموتيرش، ووجد كلاهما في التهجير مبررا لعقد صفقة تبادل الأسرى مع حركة حماس، حيث يخلّص إسرائيل من أحد المنغصات الحيوية، ويفتح الباب الكبير لتصفية القضية الفلسطينية.
تعي مصر والأردن ذلك، ويعلمان أن المقترح الترامبي يمس شرعية الحكم في كليهما، ولا يريدان خسارة تحالفهما التاريخي مع الولايات المتحدة، أو انهيار اتفاقيات السلام مع إسرائيل، من هنا يبحثان عن مخرج لمأزق قد يجلب عليهما الدخول في دوامات لا قبل لهما بها، في ظل وضع اقتصادي صعب، وأجواء سياسية مضطربة، وتطورات إقليمية مآلاتها مجهولة.
يمكن أن يؤدي الخلاف حول التوطين إلى تصويب مسارات القضية الفلسطينية، لأن القبول به من جانب مصر يعني إحداث تحول في ثوابتها الإقليمية، واهتزاز مقاطع مهمة في مكونات وركائز الأمن القومي، وموافقة الأردن تقود إلى خلل في التركيبة السكانية وميلها إلى أصحاب الجذور الفلسطينية، وبالتالي المزيد من المشاكل الداخلية.
تحتاج العلاقات بين مصر والأردن من جهة، والولايات المتحدة من جهة ثانية، إلى إعادة الضبط لبعض مفاصلها، فقد كشف التباين في ملف التوطين عن فجوة عميقة، وأن الآلية التي يتعامل بها الرئيس ترامب لا تتناسب مع الأهمية التي تمثلها دولتان حليفتان لبلاده في المنطقة، ولا بد من إعادة الاعتبار للعلاقات الإستراتيجية معها.
◄ ترامب لا يعلم أن مقترحه قد يرتد عليه إذا أحسنت الدول العربية التعاطي معه، فما يهمه تحقيق السلام، ولو بالقوة
ربما تكون الأوضاع في الأردن بالغة الحساسية وتجعل قيادتها مكبلة نسبيا في مواجهة واشنطن، ومع ذلك لم يكن لرفض التوطين أي التباس أو تفسير يحمل معنى يوحي بالقبول، ما منح الملك عبدالله الثاني مكانة مضاعفة وسط الأردنيين والفلسطينيين.
وكسب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي شعبية جديدة بإعلانه الصريح رفض التوطين، ودعم حل الدولتين، وعدم القبول بظلم الفلسطينيين، ما يدحض انتقادات تعرضت لها القاهرة بشأن وجود تواطؤ ما لتمرير ما عرف بصفقة القرن، والتي تنطوي في جزء منها على استيعاب فلسطينيي غزة في شمال سيناء، كما ينفي اتهامات لاحقت موقف مصر في خضم الحرب على غزة، وأنها عقدت اتفاقيات أمنية وتوصلت إلى تفاهمات سرية مع إسرائيل، الأمر الذي أجهضه رفض المقترح الترامبي.
يملك الرئيس الأميركي أدوات للضغط لتنفيذ خطته، إذا صمم عليها، أو لم يجد بدائل وكوابح عملية، ويتوقف ذلك على ما تقدمه الدول العربية من مقترحات مضادة، من دون رطانة أو إعادة سرديات لا تقبلها إسرائيل، فالمطلوب أولا أن يستوعب الرئيس ترامب أن مقترحه يستحيل تطبيقه، بل ضد مصالح بلاده، ولا يصب في خانة الترتيبات التي يريدها حيال عودة العمل بما يسمى “الاتفاقيات الإبراهيمية”، والتي لن يكتب لها نجاح ما لم تجد القضية الفلسطينية حلا مناسبا، وهو أحد شروط السعودية للتطبيع مع إسرائيل.
◄ خطة ترامب خرجت من رحم أبحاث عدة، قامت بها مؤسسات أميركية وإسرائيلية على أهالي غزة قبل الحرب، بينها دراسة قالت إلى نحو 32 في المئة من سكان القطاع يريدون مغادرتها
ولا يعلم ترامب أن مقترحه قد يرتد عليه إذا أحسنت الدول العربية التعاطي معه، فما يهمه تحقيق السلام، ولو بالقوة، وفقا لخطابه الأول في البيت الأبيض، وخروج فلسطينيي غزة، والذي يمهد لخروج فلسطينيي الضفة الغربية، سوف يزيد دائرة الإزعاج لبلاده وإسرائيل في الدول التي يذهبون إليها، حيث اقترح في البداية أندونيسيا ثم ألبانيا ورفضتا، بما يشير إلى عدم تمسكه بالتوطين في مصر والأردن.
وتدرك الدول العربية أن تفويت الفرصة على سيناريو التوطين يعيد الحرب مرة أخرى إلى غزة عقب انتهاء المرحلة الأولى من صفقة الأسرى، وقد يحصل نتنياهو على ضوء أخضر بذلك عند لقائه ترامب في واشنطن يوم الثلاثاء المقبل، وعلى الوسيطين (مصر وقطر) الضغط على حماس لعدم ارتكاب أخطاء في عملية تسليم الأسرى، كي لا توفر لإسرائيل ذريعة للعودة إلى الحرب وإجهاض المرحلة الثانية من الصفقة.
ودق ترامب جرس إنذار للدول العربية، حيث يفرض عليها مقترحه التوافق حول رؤية للسلام تتواءم مع المستجدات الراهنة، وتربطه بأيّ ترتيبات تريدها الإدارة الأميركية للمنطقة، وتكون إسرائيل في القلب منها، لأن الفراغ وتفاوت مواقف الدول العربية، أوجدا طموحا لدى ترامب لسده بطريقة سهلة رآها مناسبة ليتخلص من عبء تاريخي، يضعه على كاهل مصر والأردن.
ودق جرس إنذار آخر للفصائل الفلسطينية والمصير الأشد قتامة الذي وصلت إليه قضيتهم الأم بسبب التجاذبات بينهم، وعليهم أن ينزعوا فتيل الخلافات ويوقنوا أن توازنات القوى الشاملة والمنفردة تعمل لصالح خصومهم، وأن ثرثرات ترامب تبدو كأنها عقاب لعدم استيعاب طقوس المجتمع الدولي الجديد، وربما تكون لعبة دبلوماسية تحتاج حنكة من مصر والأردن لتحويلها إلى ورقة إيجابية وليست سلبية.