التعصب السياسي لدى الشباب ظاهرة تغذيها خطابات الفضائيات وقنوات يوتيوب

تعتبر الفضائيات وقنوات يوتيوب من أشد عوامل التأثير على أفكار الشباب إلى جانب رسم ملامح الوجدان الجماعي، وتؤكد الدراسات ارتباط التعصب السياسي بسمات خطاب الكراهية في هذه القنوات، حيث التحريض على العنف والكراهية هو الموجه، وباستخدام البراهين العقلية والعاطفية في اتجاه واحد.
تلعب خطابات الفضائيات ويوتيوب دورا بارزا الآن في تشكيل الوعي الجمعي للمجتمعات في ظل انفتاح فضاء شبكات الإنترنت على كافة أجهزة الاتصال من الهواتف الذكية والتابلت فضلا عن أجهزة التلفزيون المرتبطة بهذه الشبكات، وكل ذلك يلقي بتأثيرات واضحة وعميقة على مختلف فئات هذه المجتمعات وبشكل خاص الشباب الذين صاروا يتابعون على مدار الساعة مختلف القضايا والأحداث سواء منها المحلي أو الخارجي.
وأشار الباحث أحمد مصطفى إلى أن الفضاء المعلوماتي يتسم بالحرية المطلقة، والخلوّ من القيود والحدود التي تضعها النظم السياسية والحكومات، وهو ما أتاح لجيل الشباب إمكانية التواصل عبر استخدام الوسائل والأدوات دون أي قيود سياسية أو اقتصادية أو جغرافية، فضلاً عن تعميق الشعور بالمواطنة العالمية في ما بينهم. ليتأكد بذلك كيف أن وسائل الإعلام صارت من أقوى وسائط نقل الأفكار والمشاعر، وأشد عوامل التأثير على السلوك الإنساني إلى جانب رسم ملامح الوجدان الجماعي بفضل تعاظم دور الاتصال والتطور الهائل بتقنيات وآليات عملية الاتصال مما أوجد مشاريع حول دمقرطة وسائل الإعلام أي جعلها ديمقراطية.
وأضاف في دراسة حملت عنوان “أثر التعرض لقنوات اليوتيوب والفضائيات على التعصب السياسي لدى الشباب المصري”، أن التكنولوجيا تمكن الصحافيين والمؤسسات وعامة الناس من التواصل، كما أن العصر الرقمي هو عصر دمج التقنيات الجديدة بما ييسر استخدام الوسائل وتوظيفها للوصول إلى الجمهور، إلى جانب إنشاء استجابة لاحتياجات الجميع، وربط ذلك بروح الديمقراطية والشعور بها، مما يؤثر في تفسير سلوكيات الشباب وقيمهم بسبب ارتفاع استخدامهم للإنترنت جراء انتشار الهواتف المحمولة الذكية التي سهلت استخدام الإنترنت في أيّ وقت وفي أيّ مكان، ليشكل عصرا جديدا من عصور الاتصال والتفاعل بين الأفراد، ويوفر زخمًا من المعلومات والمعارف لمستخدميه، لكنه بالمقابل له عواقبه السلبية، حيث أفرز مخاوف من الآثار الجسدية والنفسية والاجتماعية والثقافية السلبية.
المشاعر السلبية تصدرت كمعيار للتعصب عبر غياب العدالة في التحيز والتمييز، أو معيار اللاعقلانية في إصدار أحكام دون أدلة
ودراسة الباحث التي نال بموجبها درجة الدكتوراه في الإعلام من جامعة سوهاج 2023، وصدرت أخيرا في كتاب بعنوان “اليوتيوب والفضائيات وأثرهما على الشباب”. جاءت في محورين الأول يحلل خطاب يوتيوب والفضائيات لاستكشاف دورهما تجاه التعصب السياسي، وذلك بالتعرف على المحتوى وأبعاده والأطر المرجعية والقوى الفاعلة ومسارات البرهنة، وأيضا اتجاهات المضامين وسماتها وعلاقتها بالتعصب السياسي.
وثانيهما دراسة ميدانية لاتجاهات الشباب لمعرفة أثر التعرض لليوتيوب والفضائيات على التعصب السياسي لديهم، سواء من خلال علاقة الاستخدام بذلك، أو المتغيرات المؤثرة الأخرى، واختبار العلاقة بين الاتجاه العدائي للتغطية الإعلامية وبين اتجاهات التعصب السياسي، وأسباب عدم تفضيل محتوى معين، وكذلك قياس أثر التعصب السياسي وبين تكوينه لاتجاهات سلبية معيقة للنهضة والتنمية.
وجاء ذلك باستخدام أداة الاستبيان على عينة من 946 مفردة ممثلة لعدد 23 محافظة، وكذلك باستخدام أداة تحليل الخطاب الإعلامي المطبقة على 8 برامج، بواقع 4 بالفضائيات و4 باليوتيوب، خلال فترة التطبيق من 1 يناير 2019 وحتى 1 فبراير 2022.
وقال إن دراسات متعددة تكشف آثارها السلبية في ما يخص التعصب السياسي، إحداها تتحدث عن درجة التأثير السلبي الأعلى لاستخدام فيسبوك في الصراعات المجتمعية إزاء رؤية ثقافة الحوار وقبول الآخر، فوافقت نسبة 73.5 في المئة كدرجة تأثير سلبي مرتفعة.
عندما يزداد التعصب يزداد توظيف المرجعيات التي يستند إليها الخطاب، كالمرجعية الدينية والتاريخية، والتسويقية والثقافية
كما تتناول دراسة أخرى كيف ساد الاتجاه السلبي تجاه الشبكات الاجتماعية كمجال عام للطرح والنقاش بنسبة 23.1 في المئة بينما جاء الاتجاه الإيجابي منخفضا وبنسبة 2.4 في المئة وأرجعت ذلك إلى الحالة الصراعية السجالية التي تطغي على الحالة النقاشية المعتدلة داخل الشبكات الاجتماعية، حيث تصدّر السبّ وإلقاء الألفاظ الخارجة والمبتذلة في التعليقات المحللة بنسبة 37.8 في المئة، والنقد بنسبة 32.7 في المئة، وكذلك غلبة الأسلوب الغوغائي على التعليقات بنسبة 40.8 في المئة. وتشير الدراسات إلى انتشار عمليات التقليد وعدوى التأثير بدلا من التأثير على الإقناع، ورفض المفاهيم الخطية من نقل الرسالة ووسائل الإعلام القوية، تلت ذلك أزمة في دراسات وسائل الإعلام الجماهيرية أنتجها النمو الهائل لوسائل الإعلام الشبكية وأنظمة الاتصالات واسترجاع المعلومات. ودراسات أخرى تشير إلى نجاح الفيديوهات المنشورة على يوتيوب التي تحتوي على تضليل واستقطاب سياسي، إذ حظيت باهتمام وتعليقات المشاهدين مقارنة بالفيديوهات الجديرة بالثقة على يوتيوب، فالقنوات المستقطبة المضللة وحتى إن استخدمت ألفاظًا نابية وتحيزًا فقد كانت الأكثر إثارة للاهتمام والمشاهدة من القنوات الحيادية المؤيدة بالعلوم مما يولد علم المؤامرة الكاذب والمصادر المشكوك فيها. ومن ثم وجود علاقة لاتجاهات التعصب بالتصورات النمطية التي يكرسها الإعلام أو يستدعيها في حملاته الدعائية، فمثلاً دايفيد شنايدر يذكر بأن نظريات التنميط تشير إلى علاقة القوالب النمطية بالتعصب والتمييز، فالقوالب النمطية محملة عاطفيا ولها صلات معقدة بالتعصب.
ولفت إلى أن الإشكالية تجاه الحالة المصرية تزداد متزامنة مع ضرورة معرفة ما بعد المراحل الانتقالية والتغيرات المتلاحقة التي انعكست على وسائل الإعلام، يحدث هذا رغم وجود 104 من الأحزاب السياسية في مصر، إلا أن الملاحظ عدم تشكل منظومات سياسية تستوعب الاختلافات الطبيعية في البشر بشكل آمن، فضلاً عن وجود انتماءات لا تلبيها وسائل الإعلام التقليدية، وفي ظل وجود إعلام جديد حر ومنطلق بلا رقيب وبلا قيود.
وتتزايد الخطورة حين يتعلق الأمر بالشباب، وهم الفئة الأكثر استخدامًا لليوتيوب، والمستهدفة من الفضائيات، كما أنها الأكثر فاعلية في الحراك السياسي، مثل ما كشفت الانتخابات أو الثورات (يناير 2011، أو يونيو 2013)، إذ تتجه إلى الثورية أو الانسحاب أو الانعزال عن المشاركة السياسية، أو الوقوع في استقطاب الاتجاهات المتطرفة فكريًا، وبالتالي تشكل أهمية وخطورة، لتكون فاعل نمو أو هدم للنظم.
وبهذا تتضح أهمية “نظرية الاتجاه العدائي نحو وسائل الإعلام” في مثل هذه الدراسة، خصوصًا والدور البارز لوسائل الإعلام التقليدية والحديثة في ثورات الربيع وثورة 25 يناير بصفة خاصة، وتوافر اتجاه سائد يميل إلى التشكيك فيها وفي مصداقيتها، وفي اتهامها بتحقيق أهداف خاصة، وبالتعبير عن جماعات مصالح لا تمثل الصالح العام، مما أدى إلى بروز حالة من الاستقطاب الحاد في المجالين الإعلامي والسياسي، تبعه انقسام تام في المجتمع تجاه الكثير من القضايا التي تعالجها وسائل الإعلام.
وهو أمر لا يرتبط بمصر بمفردها، إذ تشير الدراسات إلى انتشارها، ومنها دراسة في إندونيسيا 2018 تحذر الدعاة من انتشار التطرف عبر ما ينشر من خلال يوتيوب ونتائجه الخطيرة. وإلى حد اهتمام الأمم المتحدة بإصدار دراسة حول ظاهرة نمو استخدام الشبكات الاجتماعية ويوتيوب لأغراض إرهابية، والترويج للعنف، من خلال رسائل التلاعب النفسي بالاجتماعية الجماعية ونقل الفخر والإنجاز والتفاني، واستخدام مشاعر الفرد من الظلم أو الإقصاء أو الإذلال، واستغلالها في التجنيد ونشر التطرف والتحريض على الإرهاب.
ولاحظ الباحث في ما يخص تحليل الخطاب أن غالبية خطابات الفضائيات واليوتيوب اتسمت بتغييب الخطاب الإعلامي لصالح الخطاب السياسي، كالاعتماد على لغة إنشائية وكثافة المجاز، ومحاولة منطقة الأمور، وتصغير بعض الحقائق، والاعتماد على المبالغة، إلى أن صار الرأي معلومة في بعض الأحيان. كما ارتبط غياب المهنية الإعلامية بالتعصب السياسي، مثل التنميط الخاطئ والتمييز والتعميم والتشويه والانحياز والميل الذاتي وتقديم حقائق بغرض الوصول إلى استنتاج زائف.
ومن جانب آخر افتقاد المعالجة الجادة والمتعمقة والرؤيوية وعلاقتها بالتعصب السياسي، بسبب انحياز القائم بالاتصال عبر القنوات الفضائيات ويوتيوب، ومن ثم غاب طرح الحلول ونقد الواقع، مما يتسبب في خسارة الوطن للجهود.
وأكد الباحث ارتباط التعصب السياسي بقنوات يوتيوب والفضائيات بسمات خطاب الكراهية، حيث التحريض على العنف والكراهية الموجه، وباستخدام البراهين العقلية والعاطفية في اتجاه واحد، ولأجل مضمون معين ثابت حسب كل برنامج، لغلق تصور المتابع وزيادة التعصب مع أو ضد. فعندما يزداد التعصب يزداد توظيف المرجعيات التي يستند إليها الخطاب، كالمرجعية الدينية والتاريخية، والتسويقية والثقافية.
وفي ما يخص الدراسة الميدانية المطبقة على الشباب تصدرت الفضائيات واليوتيوب أهم مصادر المعلومات لدى الشباب عن القضايا القومية، إذ كانت من أهم سبعة مصادر من بين سبعة عشر مصدرًا، بما يعكس أهميتها، وإمكانية تأثيرها في بناء اتجاهات التعصب أو التسامح وكان في ذلك الفضائيات الحكومية بالمرتبة الأولى بمتوسط 9.1 في المئة، تلاها فيسبوك بمتوسط 8.2 في المئة، ثم الفضائيات العربية بمتوسط 6.9 في المئة، ثم القنوات الفضائية الخاصة بمتوسط 6.8 في المئة، ثم قنوات يوتيوب التابعة لجهات ومؤسسات بمتوسط 6.1 في المئة، أما المرتبة السابعة فكانت لكل من قنوات يوتيوب التابعة لأشخاص، والصحف الإلكترونية، والمعارف والأقارب والأصدقاء بمتوسط 5.7 في المئة، بما يشير إلى تساوي الترتيب والأهمية بين قنوات يوتيوب لأشخاص وبين المعارف والأصدقاء الذين يحيطون بالمبحوثين. وثانيا ارتفاع الثقة في الفضائيات بشكل أكبر من يوتيوب، ولكن لم يرتبط ذلك ببرامج الفضائيات ويوتيوب، فهناك اختلاف بين الوسيلة وبين البرامج ذاتها التي يثق فيها المبحوثون.
وبيّن الباحث أن أهم أسباب انحياز الشباب لوسائل الإعلام هو سهولة توافرها والوصول إليها، ثم تقديمها أفكارا بناءة تدعو إلى رفاهية الوطن وتقدمه، تليها حرية نقد الأخطاء والسلبيات، بينما المرتبة الرابعة كانت لأنها تعطي معلومات أكثر ومتعمقة بالتفاصيل. كما بيّن أن أكثر أسباب عدم تفضيل القنوات الفضائية ويوتيوب يتمثل في المبالغة ومجاملة المسؤولين، تلاها انحيازها لطرف واحد، ثم بث المعلومات وفق أيديولوجية سياسية واحدة.
ومن جانب آخر كشف عن انحاز غالبية المبحوثين إلى أن تأثير وسائل الإعلام سيكون على الآخرين بينما لا يحدث معهم، مما يتفق مع الحقائق العلمية القائلة بأن المرجح ظهور الأثر العدائي لوسائط الإعلام عندما يقوم المشاركون بتقدير أثار وسائط الإعلام ذات النطاق الواسع على الآخرين، وكذلك علاقة تأثير نظرية العدائية وفرضية الشخص الثالث.
وتمكن الباحث من قياس أثر التعصب السياسي بعد التعرض للفضائيات ويوتيوب، إذ تصدرت المشاعر السلبية، كمعيار للتعصب عبر غياب العدالة في التحيز والتمييز، أو معيار اللاعقلانية في إصدار أحكام دون أدلة، ومعيار عدم الرضا كالخوف من الآخر أو رفضه، إلى حد تصدر الشعور بالضيق لكون المعلومات التي لا يؤمن بها المبحوث لا يؤمن بها الجميع، تلاها الشعور بالحزن والعجز ورؤية الشيء الأفضل على النقيض تمامًا، وكذلك الشعور بالانزعاج.
وقال الباحث إن الدراسة بينت أن علاقة العدائية والتعصب بالسلبية السياسية لدى الشباب، إلى حد أن انحاز 83 في المئة من العينة لعدم المشاركة، وهذا لأن المتعصب يهمل المشاركة الإيجابية وينحاز إلى المشاركة السلبية، ومن ثم تتزايد مخاطر العدائية والتعصب في إضعاف قوة الدولة. وأن هناك علاقة بين التعصب السياسي وبين حرية الرأي والتعبير، إذ في مناخ التعصب لا يعبر المبحوثون عن آرائهم بنسبة 74.4 في المئة كما أوضحت الدراسة، بينما تصدرت أشكال التعبير في مجرد النقر على أعجبني بقنوات يوتيوب أو الفضائيات على يوتيوب وذلك بالمرتبة الأولى، تلاه الاشتراك في قناة يوتيوب أو الفضائية نفسها. بينما كانت أسباب تجنب التعبير عن الرأي خلال الإعلام هو انحياز المبحوثين إلى المشاركة في الحوارات الحية مع الأصدقاء والمعارف بنسبة 71.9 في المئة، مما قد يؤدي إلى مناخ التعصب في الانحياز لمن يشابه أفكارهم واتجاهاتهم، دون وجود منطقة وسطى آمنة للسلام الاجتماعي.