المحكمة الجنائية الدولية ومراوغات حكومة بورتسودان

من جديد، تجدد المحكمة الجنائية الدولية مطالبتها بتسليم المطلوبين لديها، وعلى رأسهم عمر البشير وعبدالرحيم محمد حسين وأحمد هارون، المتهمون بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في دارفور. وبينما تواصل المحكمة ضغوطها، يأتي الرد الرسمي من مندوب حكومة بورتسودان في الأمم المتحدة الحارث إدريس ليقدم مبررا واهيا لا يعكس سوى محاولة جديدة للمراوغة، حيث زعم أن الأدلة الخاصة بالمتهمين قد تم إتلافها بواسطة قوات الدعم السريع.
هذا الرد، الذي يفتقر إلى أي قيمة قانونية أو سياسية، لا يعكس سوى نهج التهرب والتلاعب، إذ إن المحكمة الجنائية لم تطلب أدلة جديدة، بل طلبت ببساطة تنفيذ قراراتها السابقة بتسليم المطلوبين. ولو كانت لدى الحكومة نية حقيقية في التعامل مع الأمر بجدية، لكانت دفعت بعدم كفاية الأدلة أو شككت في نوايا المحكمة، بدلا من تبرير رفض التسليم بذريعة فقدان الوثائق. غير أن الهدف الحقيقي لهذا الخطاب ليس مجرد التهرب، بل نقل النقاش إلى مربع جديد من التضليل والتشتيت، في محاولة لخلق جدل عقيم حول تفاصيل لا تغير من أصل المطالبة الدولية شيئا.
حكومة بورتسودان، التي تعمل تحت غطاء الحركة الإسلامية، تواصل اتباع إستراتيجية إنكار واضحة، فهي تدرك أن تسليم المطلوبين يعني فتح ملفات خطيرة، ليس فقط حول الجرائم التي ارتكبت في دارفور، بل حول منظومة كاملة من الفظائع والانتهاكات التي ارتكبها النظام السابق طوال عقود. في الوقت ذاته، تحاول الحكومة التلاعب بالرأي العام الداخلي عبر الترويج لمزاعم السيادة الوطنية، وادعاء أن المحكمة الجنائية أداة استعمارية، مستعيدة بذلك الخطاب التقليدي للإسلاميين الذين طالما استغلوا العواطف الدينية والوطنية لحماية مصالحهم السياسية.
في نهاية المطاف، سيجد الحارث إدريس نفسه، ومعه كل من يحاول التغطية على هذه الجرائم، أمام مسؤولية تاريخية لا يمكن الفرار منها. فقد انتهى زمن الإفلات من العقاب، وما كان ممكنا التلاعب به في الماضي أصبح اليوم مكشوفا أمام العالم
ما يفعله الحارث إدريس في المحافل الدولية ليس سوى امتداد لهذا النهج، حيث يتعامل مع المنظمات العدلية الدولية باستعلاء، متوهما أنه قادر على خداع المجتمع الدولي بالمراوغة الخطابية والمناورات السياسية. وربما يظن أنه يمتلك قدرات إقناعية تمكنه من تجاوز هذه الأزمة، لكنه ينسى أن المحكمة الجنائية تعتمد على تحقيقات موسعة وشهادات ضحايا وملفات موثقة تتجاوز ما يمكن التلاعب به داخل السودان.
ليس من المستغرب أن تلجأ الحكومة الحالية إلى هذه الأساليب، فهي لم تخرج يوما من عباءة النظام القديم، وما زالت ترى في القيادات الإسلامية المطلوب تسليمها رموزا لها، وليس مجرمين يجب تقديمهم للعدالة. وحتى إن ادَّعت عكس ذلك، فإن أفعالها تثبت العكس، إذ إن المطلوبين يتحركون بحرية كاملة تحت حماية الأجهزة الأمنية، بينما تستمر الحكومة في تقديم الأعذار والمبررات الفارغة.
العدالة الدولية، رغم ما تواجهه من تحديات سياسية، لا تزال تمثل تهديدا حقيقيا لكل من تورط في الجرائم الكبرى. فحتى لو استطاعت الحكومة تأجيل التسليم، فلن تستطيع محو الحقائق أو تغيير مسار العدالة إلى الأبد. الجرائم التي ارتكبت في دارفور ليست مجرد حوادث يمكن طمسها بالتصريحات، بل هي وقائع موثقة ستظل تلاحق مرتكبيها مهما طال الزمن.
الحكومة اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما مواجهة الحقيقة والاعتراف بأنها حكومة الإسلاميين التي لن تسلم قياداتها، أو التعامل مع المجتمع الدولي بجدية واتخاذ خطوة جريئة نحو تنفيذ قرارات المحكمة الجنائية. لكن الواقع يشير إلى أن الحكومة ستواصل سياسة التلاعب وكسب الوقت، غير مدركة أن العدالة، وإن تأخرت، لا تسقط بالتقادم، وأن الجرائم الكبرى لا يمكن محوها بمجرد إنكارها.
في نهاية المطاف، سيجد الحارث إدريس نفسه، ومعه كل من يحاول التغطية على هذه الجرائم، أمام مسؤولية تاريخية لا يمكن الفرار منها. فقد انتهى زمن الإفلات من العقاب، وما كان ممكنا التلاعب به في الماضي أصبح اليوم مكشوفا أمام العالم.