مستشارو الحكومة المصرية في الميزان

حسنا فعل رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي عندما قرر مؤخرا الاستعانة بعدد من الخبراء المخضرمين كمستشارين له في بعض المجالات السياسية والاقتصادية، وهي خطوة تؤكد أهمية الدور الذي تلعبه النخبة في تقديم توصيات مناسبة في بعض القضايا الحيوية، والتي هي في حاجة إلى رؤية واضحة للتعامل معها.
وقد تكون الحكومة تعلم كثيرا عن تفاصيل الملفات الداخلية والخارجية التي تمثل أهمية كبيرة للدولة، غير أنها تفتقر أحيانا إلى التوجه الذي يمكنها من تحقيق نجاحات سريعة ومباشرة، وبدا عدد كبير من مواقفها أشبه بردود أفعال.
لا تفيد التصرفات الآنية في مواجهة التحديات العاجلة التي تواجهها مصر، حيث يحتاج دولاب الدولة إلى مجموعة خبراء منتقاة جيدا في كل ملف وقضية وأزمة، يقدمون نصائح مخلصة للحكومة، بناء على حسابات واقعية، وحوارات ومشاورات عملية تبتعد عن القرارات الفوقية الملزمة، فلا يوجد مسؤول يملك حكمة صائبة بمفرده، ولا يوجد خبراء يمكنهم وضع تقديرات ورسم خارطة طريق لأيّ قضية من دون الحصول على كافة المعلومات الخاصة بها.
◄ لدى مصر كتيبة كبيرة من الخبراء الذين يستطيعون أن يدلوا بدلوهم بوطنية وحرفية وموضوعية، ولن تكون الحكومة في حاجة قصوى إلى الاستعانة بأجانب إذا تمكنت من اختيار أفضل الكفاءات المصرية
لم تشر الحكومة المصرية صراحة إلى المهمة التي سيقوم بها مستشاروها الجدد تفصيليا، وهل سوف يمارسون دورا محددا أم جرى اختيارهم لزوم الديكور وتهدئة الرأي العام الذي ترى شريحة منه أن الحكومة لا تعترف بمهمة الخبراء ولا تستفيد جيدا من الكفاءات، وأن المئات من المستشارين في وزارت مختلفة تم توظيفهم على سبيل المجاملات والترضيات، ما أدى إلى حرف المهمة الرئيسية التي انتدبوا من أجلها عن مسارها الصحيح، وبات الخبير أو المستشار في بعض المؤسسات الحكومية بلا عمل منتج، وربما أصبح مرادفا لفساد هنا ومحسوبية هناك، إذ يتقاضون رواتب سخية.
أقال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مؤخرا عددا كبيرا من المستشارين في ديوان رئاسة الجمهورية، وهي إشارة على انتهاء صلاحياتهم الفنية وعدم الاقتناع بدورهم، ولم يتم تعيين بدلاء لمن جرى تسريحهم، كدلالة على عدم الاستفادة منهم أو فشلهم في تقديم نصائح مجدية، وفي الحالتين تخسر السلطة، لأن التحديات التي تحيط بمصر تحتاج إلى رؤى ناضجة. رؤى من خارج الصندوق، فالصعوبات كثيفة ومتنوعة ومعقدة.
لنتخيل لو أن هناك خبراء ومفكرين سياسيين معروفين استعانت بهم الحكومة في الأزمة الليبية التي تهم الأمن القومي المصري، والصراع العسكري في السودان الذي تمس تداعياته مصالح إستراتيجية للقاهرة، والتهديدات في البحر الأحمر التي أثرت على حركة الملاحة وكبدت نتائجها مصر خسائر مادية فادحة، ناهيك عن أزمة سد النهضة الإثيوبي، كانت النتائج التي وصلت إليها مصر في أيّ من هذه القضايا ستكون مختلفة، فإذا كان الشق الأمني ناجحا في أداء مهامه المختلفة وقادرا على ممارسة دوره، فإن النجاح حتى تكتمل فائدته يلزمه شق سياسي مواز.
ولا تقتصر مهمة المستشارين على تقديم نصيحة مجردة أو عرض رؤية صماء، بل وضع خيارات ورسم سيناريوهات وخطط متباينة وتصورات بديلة مسبقا، وفقا للمكونات الحقيقية لكل أزمة أو قضية، من أجل الحفاظ على المصالح المصرية.
◄ لكي لا يكون مستشارو الحكومة مجرّد ديكور سياسي، على رئيسها تحديد مهمتهم بدقة، ومكاشفتهم بالأهداف المرجوة في كل ملف
أعلم أن الأجهزة المصرية المعنية بالملفات الخارجية تملك ذخيرة وافرة من المعلومات، ولديها تفاصيل دقيقة عنها، لكنها تحتاج إلى إعادة هندسة هذه المعلومات، والاستفادة منها في وضع خطط (أ، ب، ج) فدور المستشار دراسة كل الاحتمالات الممكنة، وغير الممكنة وفقا لنظرية البجعة السوداء، والقريبة والبعيدة، في كل ملف يهم الدولة المصرية، بشكل مباشر أو غير مباشر، بما يساعد على تحاشي حدوث مفاجآت مزعجة أو مواجهة عراقيل غير مألوفة.
تبدو مهمة الهيئة الاستشارية التي اختارها رئيس الحكومة تنصبّ أساسا على قضايا داخلية، وهي إشكالياتها وألغازها معروفة إلى حد بعيد، فقط على الحكومة امتلاك الإرادة اللازمة لحلها ومنح الخبراء مساحة كبيرة من الحركة ويمكن تجاوزها في غضون فترة قصيرة، لأن الحل يتضمن جانبا معنويا، يتمثل في استعادة ثقة المواطنين، وخلق أجواء للأمل والعدالة، وتعزيز المساواة وتطبيق القانون.
صعّبت السمعة القاتمة للعديد من المستشارين في دواوين الحكومة على مدار سنوات ماضية مهمة الهيئة السياسية والاقتصادية الجديدة، وعليها أن توفر لمن اختارتهم من أكاديميين وخبراء فرصة حقيقية لتقديم خلاصة أفكارهم بشأن مجموعة كبيرة من الملفات والأزمات التي تمثل تحديا عميقا للسياسة الخارجية، كأن يضع هؤلاء خيارات متعددة لخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول تهجير فلسطينيي قطاع غزة إلى مصر والأردن، فالرد الرسمي جاء رافضا، بما يزعج ترامب ويضطره للتنازل عن خطته ويتوقف الأمر، أو يمارس ضغوطا على القاهرة وعمّان.
◄ لا تفيد التصرفات الآنية في مواجهة التحديات العاجلة التي تواجهها مصر، حيث يحتاج دولاب الدولة إلى مجموعة خبراء منتقاة جيدا في كل ملف وقضية وأزمة
مطلوب من المستشارين تقييم الموقف وتقليبه من كل زواياه، ووضع تصورات تتعلق بطبيعة الضغوط المنتظرة وحدودها وجدواها، وآليات الرد عليها ومدى نجاحها، وما هو الاستعداد للتعامل مع الخيارات البديلة من جانب الإدارة الأميركية، وتأثير الرفض على توجهات جماعات الضغط والكونجرس حيال القاهرة، حيث نشرت معلومات حول فتح ملف يسمى خروقات عسكرية مصرية لاتفاقية السلام مع إسرائيل في سيناء.
يمكن أن يجنب المستشارون الدولة، أي دولة، الكثير من المطبات الصعبة إذا كانوا خبراء محترفين، ويمكن أن يوقعوها في مشاكل مضاعفة إذا كانوا هواة، ولذلك بدأت بعض الدول العربية تستعين بخبراء أجانب في كل مجال، وتشكل منهم خلايا تتولى وضع سيناريوهات لكل قضية، وقد ذاع صيت هؤلاء في قطاعات الأمن والسياسة والاقتصاد والإعلام، وصنعت من خلالهم بعض الدول طفرات كبيرة بسبب حكمتهم وإتقانهم ونجاحهم في رسم خطط للتعامل مع قضايا حيوية.
لدى مصر كتيبة كبيرة من الخبراء الذين يستطيعون أن يدلوا بدلوهم بوطنية وحرفية وموضوعية، ولن تكون الحكومة في حاجة قصوى إلى الاستعانة بأجانب إذا تمكنت من اختيار أفضل الكفاءات المصرية، ومنحتهم فرصة جيدة للتفكير، ولم تفرض عليهم سقفا محددا في الإبداع، وعلى صانع القرار الاختيار في النهاية، خاصة أن الصراعات تتزايد في المنطقة وتكتنفها مطبات، تجعل عملية تجاوزها صعبة، وفي حاجة إلى أدوات جديدة لتحقيق اختراقات تحافظ على المصالح المصرية التي تواجه تحديات بالجملة.
ولكي لا يكون مستشارو الحكومة مجرّد ديكور سياسي، على رئيسها تحديد مهمتهم بدقة، ومكاشفتهم بالأهداف المرجوة في كل ملف، والمدى الزمني المتاح، وطمأنتهم أن اجتهاداتهم وتقديراتهم لن توضع على الرف، فقد كان في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك مؤسسة تسمى “المجالس القومية المتخصصة”، ضمت نخبة من الخبراء والمستشارين، قدموا دراسات قيمة في مجالات متعددة، لكنها ظلت حبيسة الأدراج، ولم تتم الاستفادة من إنتاجهم بصورة كافية، وفقدت المجالس دورها وأهميتها وهويتها ورونقها، وتحولت إلى ناد اجتماعي للمسؤولين الكبار، ثم طواها النسيان.